Monday 12 February 2018

طيوب الشعر و شعرُ الطيوب






الساحة المجاورة لحديقة الشعراء في زحلة 
 

صدر للشاعر المرحوم جوزف سعيد جحا ديوانه الخامس دِيَم (2018) وهذه مقدمتي له: 


يؤكد غوته، وهو الشاعر الأديب المنظّر الملمّ بمسائل الفنّ، الذي قلّما يطلق الكلام على عواهنه، أن شعر المناسبات أعلى أشكال الشعر؛ فالشعر لا يكتفي،على غرارالموسيقى، بمواكبة مناسبات الحياة، من أعراس وأعياد ومآتم، بصورة علنية وغالبا إلزامية، ولا يزيّن فقط الأحداث العامة والخاصة زينة جمالية، بل يرتفع بها، فهو يعطيها معناها الكليّ والكوني، ويدخلها إلى الذاكرة الجماعية لتبقى فيهاوتنشئ الأجيال.
فالحياة الاجتماعية، العادية،العفوية، ملأى بالمناسبات وهي تعيش على وقعها. وإن الشاعرَ الصامتَ المنصرف إلى متطلبات العيش، الواقع تحت وطأتها، يرى في هذه المناسبات فرصة سانحة للخروج من سيرته اليومية الرتيبة،لاستخدام مهاراته اللغوية والنظمية الساكنة، للتلاقي مع قيم الجماعة ولاوعيها[1]، لتحرير ذاته العميقة والتعبير عنها، وهجر المصير المحتوم ونشدان الأبدية، لإعطاء الحدث كامل معناه والتواصل مع الأهل والأصدقاء في نشوة ربيعية، تستسلم لهوى الشعر وسحره وفرحه.

***

شكّل جوزف جحا(1914-1997) جزءا من طفولتي وصباي، فقد كنتُ والرفاق نلتقي بطلعته البهية وأناقته وجدّيته الدائمتين في طرق السراي القديم[2]، ومكتبه المجاور لها، في أعالي حيّنا المشترك مار الياس المعروف أصلا بالضيعة. أزوره عندما أرافق -إلى السراي الحالي -الوالدَ المحامي جوزف ساسين، وهما متجددا الصداقة في مسيرة العمر، وغالبا ما تخرج الأحاديث في الغرفة الضيّقة المتقشفة، بين الدواوين الرسمية، عن مواضيع الحقوق والواجبات. أسمع دائما عن مناقبيته الكبرى في كتابة العدل والتزامه الأسطوري بالقوانين، وكأنه جسّد لأجيال عديدة من البقاعيين كاتب العدل بهندامه ورصانته وحرصه على مصالح المواطنين والدولة، فهم لسنوات لم يعرفوا غيره وهم كلهم عرفوه. وتشاء مقاعد الدراسة وصفوف البكالوريا في معهد مار يوسف عينطورا أن أصبح صديق ابنه سعيد، فتعلّم واحدنا من الآخر الوفاء، ولذة المعشر، وروح المجازفة، وأساليب الممازحة والمنادمة. وكان جوزف جحا، كاتب العدل الصارم، معروفاً بشغفه بعائلته وبفخره بأولاده، فازداد القربُ منه دون أن تنقشع الهالة.

***
ولطالما ظننتُ أن شاعرنا، لشدّة مشاغله  "النثرية"، يرعى فقط المناسبات بالشعر، بشعر يحمّله عواطفه، فقلّما تبقى مناسبةٌ عائلية إلا وينظم فيها أبياتا بخفر وأناقة، يرفعانها إلى الاعلى. ولا تبقى مناسبة زحلية أو وطنية إلا ويسكب فيها لمدينته ووطنه كؤوس التحية والحرص والفخر والوداد. وهو اشتهر بدايةً بنشيده للكلية الشرقية فقد كان خير ملتقطٍ فيه لروحها ولأجوائها[3] يبثّها للأجيال:

        طاب منها العبقُ  والهدى المندفقُ

وهو كان الوفي في الصداقات، وعلى الأخص صداقة الشعراء: سعيد عقل وأنيس الخوري غانم وخليل فرحات، وقد شكّل مع الأخيرين ثالوثاً، يفاضل بين حبه لهما معيّنا لكل منهما المكانة السامية:
قُل لل"أنيسِ" إذاأتيتَ رحابه أنتَ الأحبّ من الرفاق الأفضلُ

و"خليلٌ" في خبزي وملحي وفي  شعرٍ على شفةِ الخلود يُعَندلُ

    لكن ما أن تقاعد جوزف جحا من كتابة العدل في العام 1979 حتى أعطى ما لشعره عليه من حق، فنشر تباعاً ديوانه "ربيع" (1980) ثم عشية وفاته "حبيبتي ولبنان" (1996) الذي صدّره سعيدعقل بمقدمة رائعة أقامت له المقام الصعب في "خط" كبار شعراء جيله اللبناني: صلاح لبكي وأمين نخلة ويوسف غصوب وبولس سلامة... وأكمل ابنه سعيد، بعده الرسالة فنشر دواوينه كما خطط لها هو: "حواء القصيدة" (2012 )، المطوّلة البالغة الطموح، و" ثلاثيات" (2016 )، المنظوم على نمط يحقّق المعنى، والديوان الحالي. فشكراً لسعيد،الوفيّ لوالده، الأمين على إرثه وتراثه. شكراً له من ألف باب وباب[4].  

*** 
    المرء عاشقٌ للجمال، فكيف الشاعر؟  ومَن غير المرأةِ سبيلٌ إليه بل تَجَسّده الأول؟ لذا لا عجب أن تكون معظم قصائد جوزف جحا غزلية رقيقة ناعمة، فيها الحواسُ كافة، لكن لحاسة الشمّ الدورَ المحوري فيها:

  وإنكَ فوحةٌ مرّت بداري  فأبقَت في معابرها الطيوبا
و: 
  ضاعت مسكةُ الأطياب منه   فأين شذا المداهن من شذاه
  أنوفٌ خلقُه كالوردِ طهراً  سخيٌ كالبنفسجِ في عطاه

يتساءل القارئ: لماذا للطيب هذا الوقع البديع؟ يمكن له أن يجيبَ بالتأكيدِ على فرادة كل مبدعٍ. ما أحدسه شخصيا هو أن في الطيب توازنا بين الجمال والخير، بين "ملاك" التقاليد و"شيطان" الشعر، بين جوزف جحا الأمين على العدل والعائلة وجوزف جحا الشاعر: 
     هناك من مجامرها   يفوحُ الطيبُ والصندلُ

وإن كان الشعرُ طيباً للحياة، فإن الحياةَ طيبٌ للشعر.     
    


في 5/8/2017



[1]  هذا ما يؤكده أوتو رانك (1884-1939) محلّل نفسي من أتباع فرويد.
[2]  دار البلدية حاليا.
[3]  وفي هذا الديوان " نشيد زحلة" و "نشيد قوى الأمن الداخلي( " أرض لبنان سمانا...) " ونشيد نادي "الليونز" ...
[4]  يقول جوزف جحا في "قربانة أولى" المهداة إلى حفيده جوزف سعيد جحا:
       كُن مثلَ والدك الخلوقَ بنهجه   للخيرِ ينحو للمكارمِ ينهدُ    

No comments: