وهو طيب النفس بالانفاق في الأمور الجليلة القدر،
العظيمة النفع، وقد يسمّى حرية.
أبو حامد الغزالي
ميزان العمل
( بيان ما يندرج تحت فضيلة الشجاعة)
لو كان لي أن أختاربين صفاتِ غسان تويني العديدةِ صفةً واحدةً أختصربها أبعاد شخصيته المتنوعة، لقلت إنه الكريم. وليست هذه السمة أسمى سماته، بل هي، في رأيي الشخصي، الموئلُ النفساني، لا بل الفلسفي، الذي تجد فيها السماتُ التي أهلته لدورِه التاريخي وموقعِه في الصحافة والسياسة والعمل الدبلوماسي والأدب والفنون، وحدتَها ومنبعَها ومبررَ وجودها. وليس المقصودُ هنا الكرم المادي وحسب، بل شيمةُ الضيافةِ والعطاءِ في المجالات كلها بما هي مشيئةٌ وقدر. والتجدد والتجديد وجهان من وجوه هذا الكرم الرحب. وكذلك الابتكار والخلق. والحفاظ على التراث أيضا.
يستقبلك غسان تويني في دواوينه، فيرحب بك وينوّرك ويسخى عليك بالآراء والمعلومات والتحاليل دون أن يتوانى عن سؤالك كيف ترى إلى المسائل عينها، فالكرمُ ليس في الهدايةِ وحسب، بل هو في المشورة واحترام المحاور ومناقشةِ آرائه بما يلزم من الجدية والاهتمام. و ما أن يحين موعد المغادرة حتى يبادرَ صاحبُ الدار إلى إهدائك ما فاته عرضُه في اللقاء، أو ما يكمّله و يتعدّاه إلى ميادين أخرى، فيقدّم لك كتبَه وما افتخربه من منشوراته أو حتى ما لفت انتباهه من منشورات غيره إذا رأى في ذلك ما يخدم فكرةً أو تراثا أو قيمة من القيم.
وسياسة عميد النهار في احترامِ المواهب المكرّسة واعتمادِها أساسا ثابتا، وفي اكتشاف المواهب الصحافية، وامتحانِها عبر إتاحة الفرص لها، وتوظيفها، وإبراز الاسماء الجديدة وإيلائها المساحةَ الجديرةَ بها وإيفائها حقها من الوجوه كافة، ليست هذه السياسة إذاً من باب التحديث والمنافسة والسعي للنجاح المهني فحسب، بل قد تكون، في الوجه الأسطع من وجوهها، صادرةً عن كرمٍ واثقٍ بالنفس، أمينٍ تجاه الآخرين، واثقٍ بأمانتهم، غير خائف من غيّ أو حسد. وأمين على المهنة كريم تجاهها. لذا ترى غسان تويني محاطا بأصدقاءَ من أجيال مختلفة، ومهن متنوعة، وفي طليعتهم الزملاء ممن عملوا معه وفي جريدته في مرحلة ما، أو في البدايات الصحافية، وأكملوا المشوارعلى دروب أخرى غالبا ما أصابوا فيها نجاحات مهمة. وترى أيضا بين الاصدقاء الزملاء أصحاب الصحف الأخرى. هذا ولم يكرّم أحدٌ كبارَ الصحافة في لبنان من ميشال شيحا إلى كامل مروة وأسد الأشقرومن جورج نقاش إلى فؤاد سليمان ورشدي المعلوف مثلما فعل تويني في مقالات تصدّرت الصفحة الأولى للنهار وجُمع معظمها عام 1990 في كتابه سر المهنة...وأصولها، محاضرات في الصحافة ومقالات عن كبارها. وفي عنوان الكتاب ما يبرز حرصَ المؤلف على وضع ما نشأ عليه من قناعات وما توافر له من خبرات في تصرف أجيال الصحافة الوافدة. فالمعطاءُ معلمٌ أستاذٌ بالطبع والاكتساب. وهو أيضاً تلميذٌ يقرّ بما للأوائل من أياد بيضاء. وهو أخيرا زميلٌ منصف يعترفّ بما للزملاء من سماتَ في مواقعهم المختلفة.
وكم يحفظ المراسلون الأجانب من الود لغسان تويني، أولئك الذين وجدوا فيه إلى الزميل العارف والشارح وفاتح الأبواب الموصدة،الأخَ والأبَ وبيتا يفدون إليه فيشعرون فيه بأنهم أصحابُ الدار.
وكم يقصد التويني – وهو المسؤول الأعلى في الصحيفة ودار النشر - أخصامُ الأمس، فلا يُنسى الماضي أو يُذكر مزاحا، ويكون للصرح الذي بناه غسان، أو أعلاه، رصيدُ الثقة عند الأخرين، وإقرارُهم الضمني المسبق بسمو الاخلاق، والاعترافُ المتأخر بوجاهة نظر عميد النهار ورفعتها.
وما المكانُ والمكانةُ اللذان أولتهما النهار للفكر والآداب والفنون والريادة والتجديد في حقولها منذ مطلع الخمسينات، وصار عرفا وتحصيلا حاصلا في الصحافة اللبنانية والعربية لاحقاً، من باب الحداثة والثقافة الذاتية والجماعية والسبقِ المهني وحسب، بل هو أيضا من باب حسن الضيافة والكرم على الذات والآخرين، كباراً في ميادينهم وميادين في كبارهم.
والعناية بالتراث الثقافي والتاريخي التي أفرد لها تويني بابا خاصا في النهار، تعدّت الجريدة إلى دار النهار ومؤسسة ناديا تويني ومتحف سرسق وكاتدرائية مار جرجس وما يصعب إحصاؤه من المشاريع والمؤسسات. بذل غسان لذلك أموالا وجهودا وتابعَ وراسلَ... وما يعطيه من ذاته ووقته ورصيده لتنجز الأمورُ على خير وجه يختفي داخل السعادةِ التي يبديها عند الجهد والفعل والنتائج. غسان تويني كريم على الماضي كما هو كريم على الحاضر والمستقبل.
ويفيض غسان تويني جودا بتفاؤله المستمر، تفاؤله بالوطن لبنان وبالإنسان والإنسانية. ففي أحلك أعوام العقدين الأخيرين، يوم كان الاستقلالُ في الحضيض والكيانُ يبدو في مهب الريح، لم يشّك لحظةً بانتصار الأول القريب وبديمومة الثاني. ويرسَخُ هذا التفاؤل في التاريخ والجغرافيا والمواثيق الدولية وقوة الحق و انتصارالقانون. لكنه يعتمد - في بعده الأعمق- على الإيمان بالعمل، وبالقدرة الدائمة على مواجهة قوى الظلم والظلام وهزيمتها. كل كتابات غسان، المعلن منها والمحجوب مثل الرسائل إلى الرئيس الياس سركيس، تدعو إلى "الحزم والعزم والتجاسر" وتحارب "اليأس والحزن والتشاؤم". قد يكون المتشائم كريماً بأرائه. لكنه ضنينٌ بذاته وقدرته وقواه. وبخيلٌ بما يخبئه القدر من رياحَ مؤاتية. المتفائلُ يعرف تمام المعرفة أن لرؤياه ثمنا. وأن هذا الثمنَ يأتي على حساب راحته وثروته وحياته وبالمجازفة بها. لكن هذه الرؤيا وهذه المغامرة تكرسانه صانعا لا مصنوعا، مغالبا لا مهزوما، قادرا لا عاجزا. وقديما قال المتنبي:
لولا المشقةُ ساد الناس كلّهُم الجودُ يفقر والإقدام قتّالُ
ففي التفاؤل والمشقة والمجازفة بكل شىء والثقةِ بالذات وحبِ خوض المعارك في سبيل الحق وصون الحرية ورسم المصير ما يتيح السيادةَ أي المروءةَ الحقة. وكم دَخَلَ غسان تويني السجونَ، وكم أوقفت صحيفتُه على مرّ العهود، وكم هدّدت حياتُه وتمّ الإعتداءُ على صحافييه وخطفُهم (ونخص هنا بالذكر ميشال أبو جودة الذي اعتدي عليه وخطف في زمانين متباينين)، وكم قاسى وجازف صحافيا ووزيراً ليبقى في البيروتين، الشرقية والغربية، على ما له من الأعداء في كليهما، وكان الوزيرَ الوحيدَ المتنقلَ بينهما إبّان حرب السنتين 1975- 1976 ، وكم كان جريئا ومجازفا في دبلوماسيته وفي إطار دبلوماسية دولته يوم صرختِه "أتركوا شعبي يعيش!" وعند المطالبة بإقرار مجلس الأمن القرارات المصيرية التي لم تكن تروق لا الأعداء ولا الأخوة والأصدقاء. قام غسان تويني بما قام به دون وجل أو خوف، بل بشيء من النشوة والكثير من الفرح، كما يبين في روايته لها وأحاديثه. ولو تردد في فعل ما فعله، لكانت الكآبة طغت عليه. يورد في واحدة من رسائله كلاماً ينسبه إلى سياسي أسوجي:" ثمة طريقتان للنظر إلى مسألة: أن نرى في كل إمكانية صعوبة؛ أن نرى في كل صعوبة إمكانية" (رسائل إلى الرئيس الياس سركيس1978-1982، ص 129). وتويني يرى بالسليقة في الصعوبات محفّزاتَ نفسانيةً وإمكانيات منطقية وتاريخية قابلةً للتحقيق. وهو ما يفسّر تحدياتَه الدائمة والمستمرة في مسيرته الشخصية والمهنية والسياسية.
شبّهت غسان تويني يوماً في كلامي عن قرارات مجلس الأمن في العام 1982 بأبطال المخرج السينمائي جون هيوستن: دافعُهم الأبرز "مناقبيةُ المبادرةِ" والمحاولةِ، لا النتيجةُ التي غالباً ما تكون الفشل (من محفوظات غسان تويني، 1982، عام الاجتياح، دار النهار، 1998، المقدمة، صفحة ن). راقه يومها التشبيه لما فيه من بُعد جمالي ومن وصف لعشق الفعل والمجازفة. لكن تويني ابنُ الإغريق وأرسطو بالذات. فالعملُ عندَه هادفٌ ويسعى إلى تحقيق غاية. وما يجهله معظمُ الناس هو أن غسان تويني بعد القرار 425 ومحاولات تنفيذه الفاشلة حتى الحدود الدولية في العام 1978، لم يعد يرى في موقعه الدبلوماسي في نيويورك ما يفيد القضية الإفادة اللازمة. لذا سعى بقوة للمجيء إلى بيروت، لا بل إلى الجنوب، للإشراف على هيئة تنسيق بين القوات الدولية والجيش اللبناني ولجان شعبية جنوبية تتيح تطبيق القرار الدولي على الأرض وعودة السيادة الوطنية كاملة حتى آخرِ شبر. كثر قدومه إلى بيروت وبوشرت الاجتماعات، لكن تلاقي أطرافِ الحروب الموضوعي على حساب المصلحة اللبنانية كان أشدّ وأدهى.
ويدعو غسان تويني في مقالاته إلى "الحُلم والخيال" ويطلب في نص آخر مضاعفةَ "الخيال والرؤيا والتحرك في سياستنا". فالجودُ يحفّز على التجديد في ميدان الأفكار، وعلى عدم الركون إلى ما بلي من المفاهيم والصيغ. الأمر في غاية الصعوبة كما رأى المحدثون. مالارميه تحدّث عن "أرض دماغه القاحلة والباردة"، ووضع هايدغر وفوكو "ندرة الأفكار" في قلب نظاميهما. ومن الجبهة الاشتراكية الوطنية في مطلع الخمسينات، إلى المائة يوم في الحكم في أول السبعينات، إلى الثورة الدستورية، إلى ما بعد الطائف، لم يخط تويني حرفا لم يسعَ فيه إلى الإتيان بفكرة تخدم لبنانَ والعربَ وقضية فلسطين. وربما حالَ هوسُ التجديد الدائم دون صياغته نظرية متكاملة حول الأوضاع، فكان بذلك أكثر أمانة لمهنة الصحافة منه إلى الثقافة الفلسفية التي واكبت مسيرتَه وطبعت بطابعها الكثيرَ من محاضراته.
ومن تفجّر الجود عند المفكر عنايتُه بالصياغة وحرصُه على كتابة تخرج عن الرتابة والمألوف وتسعى إلى ملامسة الشعر والدراما المسرحية، وتسلك مسالك الفن بما هو "غائية من دون غاية" و"لزوم ما لا يلزم". بدأ غسان حياته شاعرا ووجد في الشعر رفيق العمر، فلم يتصور الكتابة، سياسية كانت أم فكرية، خارج الإحساس والشعور والخيال والإيقاع والتنوع...ومن يدرس مخطوطات تويني وتصحيحاته ويقارن ما بدأ به أيُ نصٍ بما انتهى إليه يرى عملَ الجمالية اللامتناهي في كل ما كتب، وهو عملٌ مضنٍ بقدر ما هو مفعمٌ بالفرح.
آخيراً لا آخراً، لم يتجنّ الدهرُ على أحد مثلما تجنّى على غسان تويني. لن أعدد المصائب، كلكم تعرفونها. لكن أحداً لم يشبّهه بأيوب، الإنسانالعادل الذي انهمرت عليه الويلات، لأن التشبيه ساقطٌ بما لا يقبل الشك. تحدث البعض عن المآسي الإغريقية، وفي الظاهر ما يبرر الحديث. ألمُه الداخلي وهو عميقٌ عميق نظراً لعاطفيته وتعلقه الشديد بأفراد أسرته لا يوصف وهو ملكُه وحده . ظاهراُ ماذا فعل غسان تويني ؟ جابه كل مصيبة بالكرم والعطاء. رحلت ناديا، فجمع كل حرف كتبته وأخرجه أيما إخراج وناضل لتنال المكانة التي تستحقها هذه الشاعرة الكبيرة في الأدب اللبناني والفرنسي والعالمي. وكانت في إثر ذلك سلسلة باتريموان الجامعة لمؤلفات كبارالكتّاب والشعراء اللبنانيين اللذين كتبوا بالفرنسية. إغتيل جبران الصحافي الحرالجريء وكان إغتياله من آلم الإغتيالات إن لم يكن أشدّها إيلاما. وما كان من غسان إلا أن دعا إلى دفن الحقد والثأر. فكان بذلك قدراً في وجه القدر، أو إنسانا ندّا للدهر يتماسكُ ويصفحُ ويجود.
الحرية بما هي كرمٌ ، والكرم بما هو حرية، هذا هو غسان تويني، المرء الذي يعيد كل يوم تعريفَ الكرم وصياغتَه والتفضّلَ به.
أنطلياس في 13/3/2011
No comments:
Post a Comment