Friday, 21 June 2013

جائزة ميشال زكور للعام 2013 : أحمد بيضونPRIX MICHEL ZACCOUR 2013: AHMAD BEYDOUN








كلمة ممثل لجنة جائزة ميشال زكور، فارس ساسين:

سيداتي، سادتي،
أيها الحفلُ الكريم

        من محاسن الصدف أن يكون الحائز الأول  لجائزة ميشال زكورهو الدكتور أحمد بيضون.  فهذه الجائزة التي  تمنح للمرة الأولى هذا العام، ربطت دون سابق تصور بين مؤسس صحيفة المعرض (1921-1936) ميشال زكور (1896-1937)  الصحافي الجريء والسياسي الدستوري المؤمن بالوطن الصغير المستقل عن كل وصاية أجنبية "رغم فرانكوفيليته" كما ينبّه إلى ذلك حذِراً تقريرٌ سريّ فرنسي[1]، وبين راوية رياض الصلح في زمانه أحمد بيضون الذي التقى زكور، زائراً أو خطيباً، في كل عودة لرياض بك من منافيه الكثيرة، وفي تحوّل هذه الاستقبالات بين نهاية العشرينات وأواسط الثلاثينات من القرن المنصرم من حفلات إلى مسيرات ومهرجانات. وهكذا، إلى اللقاءات الثلاثية - مع حفظ الأحجام وتباين الأزمان-  في الحدث التاريخي، يمكن إضافة ما سمّاه الصلح "وحدة القلوب" أثناء حركات الإحتجاج الإقتصادية الشاملة في العام 1935، وفي تقديم استقلال لبنان على كل ما عداه منذ 1928[2] على الأقل.
        وقد يكون من محاسن الصدف أيضا أن جائزة ميشال زكور التي تعطى عن كتاب أو رسالة أو بحث الفّه  لبناني بإحدى اللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية عن موضوع اقتصادي أو سياسي أو ثقافي لبناني، ولا تعطى لكاتب ما أو لكامل مؤلفاته ، جمعت هذا العام بين المؤلِف والمؤلَف. فكانت من نصيب أحمد بيضون على كتابٍ له صادرٍ عن دار الساقي عام 2012 بعنوان لبنان الإصلاح المردود والخراب المنشود. إختيرت، في المرحلة الأول، مجموعة من المؤلفات الصادرة في ذلك العام، وكان معظمها لافتا للانتباه ومحقّقا للشروط،  ثم اصطفي هو منها في مرحلة لاحقة. وليس هذا الكتاب طارئاً على اهتمامات المؤلف أو منهجه. يقول بيضون: " الكتاب الحاضر إذا تكثيف وتأليف لجهد اتّصل من مدّة نيّفت على ثلاثة عقود. وهو يستعيد خلاصات أفضى إليها هذا الجهد ويستكملها بتفحّص الحاضر ويضعها على محكه." وهكذا في اختيارها  لهذا الكتاب تكون اللجنة قد توّجت إرثا كاملا دون سعيها المباشر إلى ذلك.
        يتناول الكتاب مجريات الأزمة التي تعصف بالنظام السياسي في لبنان وبمجتمع البلاد السياسي منذ العام 2005، أي منذ خروج الجيش السوري من لبنان، مبيّنا جذورها في تاريخ النظام الطائفي، واصفا بناها ودينامياتها، مظهرا انتقالها إلى طور "أرفع" في الطائفية. ولا يكتفي الكتاب بالتحليل والتعليل بل يرسم توجهات وحلولا للخروج مما أصبح يشكل أزمة دائمة ذاهبة نحو الانفجار والانهيار المعمم، فيعدّل ويزيد في "جدول أعمال" أقترحه ما قبل 2005 للهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية التي نصّ عليها اتفاق الطائف ولم ترَ النور بعد.
وإن كان هذا الكتاب يبدو للوهلة الأولى مجموعة نصوص مختلفة المصادر والتواريخ ومكتوبة، على عادة المؤلف،  بلغة مشرقة تعيد للعربية ألقها أو تبتكر لها ألقا جديداً، وفي مطلق الأحوال تُصالحها مع الحداثة من دون تفريط أو افتعال، إلا أنه، في نصف صفحاته، جاء صيغة تامة غيرمسبوقة لتقرير متكامل ولأربعة "دروس" أعطيت في الكوليج دي فرانس في أيار 2008 وكان المحاضر، على ما أظن، أول لبناني يعطي فيه دروساً منذ المارونيين العثمانيين جبرائيل الصهيوني (1577-1648) وإبراهيم الحاقلّاني (+1664)، وكان اسم المؤسسة يومها الكوليج رويال[3]. وهكذا يبدأ هذا القسم للمرة الأولى بفصل فلسفي تاريخي عنوانه "عمل التجريد السياسي" يَصلح للتدريس في الجامعات ولتنشئة المواطنين كافة على المواطنة الحقّة. أما المقالات المجموعة في النصف الثاني من الكتاب، فهي إلى كبير أهميتها وارتباطها الوثيق بالموضوع، إختيرت وعدّلت ليكون للمصنف وحدته ونسقه، وليجد فيها النصف الأول ما يدعمه ويثريه.
 إطمئنوا: لن أوجز الكتاب أولا لضيق الوقت، وثانيا لغنى التضاريس والخطوط في البحث، وأخيرا لتولي المؤلف الموضوع أو ما يراه منه. أكتفي، مع اللجنة، بالإحالة إلى لبنان الإصلاح المردود والخراب المنشود  داعيا إلى ما سمي يوماً " قراءةً مكابدةً".

                         *  * *
  
        في مكان ما[4] من  كتابه الصراع على تاريخ لبنان[5] يرى أحمد بيضون أن المؤرخين الذين قاربوا على النحو الأكثر نقدية وقرباً من الواقع، أي الأكثر موضوعية، تاريخ لبنان هم إمّا المنتمون إلى طوائف هامشية وإما الهامشيون في طوائفهم. وأحمد بيضون لا ينتمي إلى طائفة هامشية (في أضعف الإيمان)، وليس صعلوكاً لا في طائفته ولا في أي مؤسسة انتمى إليها طوعا أو عُرفاً. فمن أين جاءه هذا التحرر من الخرافات وسلوك هذه الدروب الوعِرة؟
           جاء، بلا ريب،  من كونه فردا، والفردية تكتسب، ومن كونه مواطناً ولو في جمهورية "متقطعة" ومتفسخة، ومن كونه إنسانا مجاهدا في سبيل المعرفة، خلوقا، ودوداً.
        أي من كونه أحمد بيضون.
        وفي هذا برهان وافٍ على أطروحات الكتاب المختار الحائز على الجائزة.









كلمة الدكتور أحمد بيضون:

أشكر لكم فرداً فرداً وزوجاً زوجاً تشريفكم إيّاي ببذل الوقت وتقبّل عناء الوصول إلى هذا الحفل. هذه مودّة منكم من القبيل الذي يعين على مواصلة العمل وعلى الحياة نفسها. وأشكر لمؤسسة ميشال زكّور: لراعيها ولهيئة محكّميها هذه الجائزة التي يسعدني أن تكون وُجهتها مكافأة الأبحاث وأن يكون كتابي الأخير أوّل عمل بحثي ينالها. أشكر كلّ من يُظهره التحقيق فاعلاً أو متدخلاً في منحي هذه الجائزة.
كنت أصادف اسم ميشال زكّور في أعمال لمؤرّخين أصبحت مادّة عملي من نيّف وثلاثة عقود. على أن الاسم أخذ يستوقفني من يوم أن وقعت على صاحبه خطيباً في حفلٍ أقيم في صيدا تكريماً لرياض الصلح عند عودته من منافيه سنة 1928. ثمّ وقعتُ على خطبة ألقاها رياض الصلح، بعد ذلك ببضعة أشهر، في حفلٍ أقيم في باريس تكريماً لميشال زكّور. وكان أيضاً أنني وجدت مُتعة غامرة في تصفّح المجلّدين اللذين ضمّنتهما "دار النهار" نخبة من أعداد المعرض، جريدة ميشال زكّور. تلك متعة تحملها نضارة الأقلام، وأبرزها أقلام "عصبة العشرة"، ويبعثها ألق الموادّ التي ضمّتها أعداد الجريدة. وهذان النضارة والألق يبلغاننا فيما يتعدّى صفرة الورق... أو بمَدَدٍ منها: لا أدري.
وقد لازمتُ رياض الصلح أعواماً خرجتُ منها بما سمّيته "سيرةً منجّمة" للرجل. ولم يخطر لي، وأنا منشغل به، أن ميشال زكّور سينشغل بي، من وراء حجابه، وكأنه يكافئني على عنايتي بصديقه. والحقّ أنني كسَبْتُ مع الجائزة التي أنا بصددها مودّة مكرم ميشال زكّور وأن هذه المودّة جائزة أخرى. كسَبْتُ أيضاً، مرّة أخرى، عناية صديقي الرائع فارس ساسين الذي أصبح وكأنما كتب عليه أن أظهر له عند كلّ مفترق. وكيف لا يسعد المرء بالعناية تأتي من واحد من أعلام المعرفة والأدب ومعالمهما في عاصمة أوشكت أن لا يبقى لها جمالٌ إلا جمال ما تبدعه هذه القلّة من أفراد ينعشونها ويسهرون على تطييب أنفاسها؟ كسَبْتُ أخيراً لا آخراً ما أعلمه ولكن يؤنسني كلّ ظهور جديد له من رضا من أبادلهم الرضا: أهلاً وأصدقاء. ومن بين هؤلاء، أسمّي اليوم، في معرض الشكر، ناشرة هذا الكتاب دار الساقي وممثلتها هنا العزيزة رانية المعلّم وأسمّي العزيزة هند درويش مديرة الأوريان دي ليفر التي أخذت على عاتقها إعداد هذا اللقاء البهيج. 
يتّصل الجذر الفكريّ لكتابي بمقالة صغيرة نسبياً نشرَتها لي جريدة السفير في 25 أيار من سنة 1987 تحت عنوان "وجه الصيغة وقفاها". تتكئ هذه المقالة على ملاحظتين استعارت أولاهما من كتاب لي أقدم منها عهداً وخلَصت منها إلى الثانية. الملاحظة الأولى أن اعتياد اللبنانيين إعلان المقت لطائفية نظامهم السياسي وإنكار الصفة الطائفية لمواقفهم ولتشكيلات مختلفة لهم أي ما أسمّيه بخفر الطوائف أو الحشمة الطائفية أمرٌ لا يجوز إلحاقه بالرغبة المجرّدة في مجاملة الحداثة وإنكار التعلّق بتقليد يعود إلى عهود بائدة وإنما هو شرطٌ حيوي لتحرير فسحة لا يستغنى عنها وإن تكن محدودة الرقعة ومهدّدة دائماً تظهر فيها الدولة اللبنانية وتزاول وظائفها وهو، في آخر المطاف، ضرورة لوجود هذه الدولة نفسه. معنى هذا أن اللبنانيين حين يجنحون إلى الاستواء طائفيين غير محتشمين، معتدّين، في الاجتماع وفي السياسة، بهويّاتهم الطائفية حصراً وغير مقرّين بدواعٍ تدعوهم إلى النأي عنها، في تناولهم شؤونهم العامّة، وذلك لتكوين مجالٍ وطني لهم، إنما يكونون قد باشروا الجنوح بدولتهم نحو التخلّع والتهاوي وباشروا، بالتالي، التوجّه بجماعاتهم نحو اعتماد العنف في التنازع.
تلك إذن هي الملاحظة الأولى، وعنوانها لزوم لبناني للحشمة في الانتساب إلى المدار الطائفي شرطاً لبقاء الدولة. وأما الملاحظة الثانية فمستقاة من نزوعٍ لبنانيّ معاكس، مكتومٍ عادة إلى هذا الحدّ أو ذاك في حيّز الطائفة. وهو النزوع إلى الشكوى من تفرّق الصفّ الطائفي وإلى إعلان الرغبة في توحيد هذا الصف على غرار ما يراه الداعية أو يتوهمه حاصلاً في طائفة أخرى أو أكثر من طائفة واحدة... وعلى التخصيص، في تلك التي يعُدّها الداعية نفسه مصدر الخطر. ملاحظتي في مواجهة هذه الشكوى من الفُرْقة الطائفية ومن توزّع المواقف في الطائفة الواحدة هي أن تحقق الوحدة السياسية في كلّ من الطوائف إنما هو إعلان نهاية، ولو آجلة، للتجربة الطائفية من أصلها.
أقول: "تحقّق الوحدة في كلّ من الطوائف" ولكن أعلم أن تحققها في واحدة، لا أكثر، من الطوائف الرئيسة يكفي لزلزلة النظام السياسي القائم وذلك بوضع المؤسسات السياسية للدولة أو السلطات العامّة تحت وطأة ابتزاز لا يطاق. فإن الطائفة الممتعة بالوحدة السياسية المشار إليها تصبح قادرة على تخيير الدولة بين التلبية غير المشروطة لمطالب تعصي على التلبية أو  التحمّل غير المحدود لمسلكيات يتعذّر تحمّلها وبين مغادرة الطائفة الموحّدة بقضّها وقضيضها لسفينة الدولة أي لمؤسسات الحكم بادئ بدء. هذا أمر لا يطيقه النظام الطائفي بمبدئه نفسه. وهو ينتهي إلى عطلٍ في الشرعية قد يشفعه، في جهة الطائفة المتراصّة الصف، إغراء بالجنوح إلى القوّة يزكّيه ظرف التفاوت في الحال بينها وبين شقيقاتها الأخريات. هذا التفاوت نفسه لا بدّ أن ينزع إلى الضمور. فهذا يحتّمه منطق الدفاع عن النفس، من جهة الجماعات الأخرى، وفلّ الحديد بالحديد.
أقول هذا مع علمي أن الرغبة في المحاكاة لا توفّر وحدها الطاقة اللازمة ولا الظروف المواتية لمماثلة الخصم الداخلي. ففي الحالة اللبنانية، يحصُل استشعار دائم للمواجهات الدائرة في المحيط وفي ما هو أبعد و يستمدّ من هذا الخارج المركّب، حين تميل به مصالحه إلى الاستجابة أو إلى المبادرة، جانب صالح بل حاسم من الطاقة اللازمة لمواجهة الندّ أو الخصم الطائفي، دفاعاً أو هجوماً. في كلّ حال، لا تبقى "وَحْدة الصفّ الطائفي"، بمفاعيلها المدمّرة، مدّة طويلة امتيازاً لطائفة واحدة. فلا بدّ من استوائها تحريضاً على النزوع إلى المحاكاة ولو بقيت هذه أسيرة معطيات تتعلّق بأوضاع الجماعة الراغبة فيها، أيّة تكن، وبموقعها بين قوى الداخل والخارج.
وحين يعلو منسوب الوحدة السياسية في كلّ من الطوائف (مع بقاء التباين قائماً في هذا المضمار بين هذه وتلك منها ومع التعذّر المؤكّد لتحقق الوحدة المشار إليها تحقّـقاً مطلقاً) تزداد أزمة النظام عسراً ومؤسسات السلطة وغيرها من مؤسسات الدولة تهالكاً. وتعظم أيضاً حظوظ الجنوح إلى القوّة في إدارة التنازع الجاري. فهذه الحظوظ لا ينقصها، في الواقع، بل يزيد فيها التوجّه إلى التكافؤ بين قوى الطوائف المعبّأة حين تزكّيه حبكة الظروف. وذاك أن البديل من العنف ههنا لم يكن غير الرضوخ للقوّة وحصاد الخسائر والمخاطر المترتبة على ذواء سلطة الدولة والمنطق الوطني. الخلاصة أن ما قد يُرى كمالاً لتحقق المبدإ الطائفي المؤسس لنظام لبنان الاجتماعي السياسي إنما هو، في حقيقته، افتتاح لتضعضعٍ عميق: لأزمة قصوى قد تدارى بعض مفاعيلها وقد تتمادى في الزمن ولكنها تتوجّه بهذا المبدإ نحو الإفلاس الكلّي إذ تضرب النظام القائم عليه بعطل يبدو عصيّاً على المعالجة والإصلاح.
وما يجب تسجيله، دون الدخول في كيفياته هنا، هو أن الحرب التي خبرَتها بلادنا عِقْداً ونصف عِقْدٍ هي ما توجّه بكلّ من الطوائف، وبنجاح متباين في ما بينها، نحو الاستواء وحدةً سياسية أو ما هو بهذه المثابة. وهي، أي الحرب، ما ضرب "حشمة الطوائف" أيضاً، فأصبحت الطوائف تميل إلى الاستغناء عن كلّ تمويه لطائفية مسالكها في كلّ أمر تقريباً. وهي، أي الحرب أيضاً، ما أنشأ الخلل الذي بلغ فتكه بالمنطق الدستوري أو المؤسسي بعض ذراه اليوم وأخذ يبدو وكأنه يدفع البلاد دفعاً نحو حربٍ جديدة.
وفي مدى عقدٍ ونصف عقد آخرين تَبِعا الحرب، كانت هيمنة الحاكم السوري على لبنان، بمزاولتها وظيفة التحكيم الداخلي في البلاد، تحجُب عجز المراجع الشرعية المفترضة لها هذه الوظيفة بحكم الدستور. وكانت هذه الهيمنة تتيح ظهور هذا العجز، أحياناً، وتطاول في الحسم لتحمي مسوّغ بقائها. وحين انجلَت الهيمنة مفسحة في المجال لتغيّر متعدّد الوجوه في هندسة المجتمع السياسي التي كانت قد فرضتها على البلاد فرضاً، انكشفت أستار العجز المتهالكة عمّا لا نزال فيه من أزْمة مفتوحة: أصلُها في الطور الذي بلغه النظام الطائفي برمّته وإن تنوّعت مجاليها السياسية واختلفت أطوارها الظرفية.
يُبْرِز هذا الطور، بما ينطوي عليه من مخاطر ومهالك، ضرورةَ الإصلاح. وقد التفت الكتاب إلى هذا الأمر فاقترح عناوين للإصلاح مستوحاةً من كَثَ ب مما أجمله اتّفاق الطائف في باب الإصلاحات وما سمّاه إلغاء الطائفية السياسية. على أن الكتاب يجرؤ على القول أننا نبتعد عن إرادة الإصلاح وإمكانه بمقدار ما تظهر ضرورته. وذاك أن أزمة النظام التي نحن فيها متشكّلة بحيث تزيد في تشقق الشعب وذوائه، بما هو إمكان لذاتٍ مريدة، وتمنع، إلى أجلٍ يتعذّر تعيينه، تشكّل ما يقتضيه إجراء الإصلاح من كتلة شعبية فاعلة، متعدّدة الموارد والمصادر السياسية ولكنها مجمعة على إرادة الإصلاح. تلك هي المحطّة التي أدركناها اليوم: نرى الحاجة إلى الإصلاح ماسّة ولكن نرى ما هو متحصّل لنا من مؤسّسات مسؤولة عن إصلاح نفسها آخذاً في التهاوي.
وإذ أقول إن النظام الطائفي بلغ طوراً جديداً من أطوار مساره أُبْرِزُ ركناً من أركان هذا الكتاب هو اللزوم المثابر للقول إن الطائفية لها تاريخ وإنها، بخلاف الشعور الذي تنشئه هي نفسها أحياناً، ليست شيئاً خالداً ولا هي لبثت، من أيّ وجه من الوجوه، على حالٍ ثابتة عبر تاريخ البلاد الحديث أو المعاصر. وحين أبرزتُ، في نصوص يضم هذا الكتاب بعضها ويرقى بعضها الآخر إلى سنة 2000 ويرقى أوّلها، وقد أشرت إليه، إلى سنة 1987، تباشيرَ هذا الطور الجديد وملامحَ الأزمة التي ينطوي عليها، لم أكن أتنبّأ بشيء. وما أزال أميل إلى البَرَم بمحلّلين لا يرون من الوقائع والحوادث إلا تفرّغها المزعوم لإثبات توقّعاتهم. كانت مهمّتي تقتضي جرأة الإدراك أو الإقدام في القراءة لا صواب التوقّع. ويقتضي حسن الإدراك، فضلاً عن المثابرة وعن بعض المعرفة، دأباً في مناضلة خصم يحاصر عقل اللبناني من كلّ جانب. ذاك هو العصبية، على اختلاف مجاليها والمعاني، وهي ما تتعيّن حماية استقلال العقل من هجماته. وإذا كان ثمّة في هذا الكتاب ما قد يستحقّ جائزة ميشال زكّور، فهو – بقطع النظر عن حظوظ الفلاح والخيبة فيه – هذا الجهد لدحر إغراء العصبية وضغطها ولتحصيل ما أمكن من حصانة للعقل.
بخلاف ذلك، أرى الصورة المكفهرّة التي يرسمها لحالنا هذا الكتاب، وهو يوشك أن يُقْرأ من عنوانه: "الإصلاح المردود والخراب المنشود"، مستحقّة عقوبةً لمؤلّفه لا جائزة. وفي ضوء اللحظة الحاضرة، تستحقّ عقوبةً أيضاً المقالة المسمّاة "أشياعُ السنّة وأسنانُ الشيعة": تستحقّها (وهي المكتوبة سنة 2007)عنواناً ومضموناً. عوض العقوبة، نال الكتاب جائزة يعتزّ بها مؤلّفه ويشكر لمنشئها تشجيعه ولهيئة محكّميها تقديرها. وقد جاء في الكتب أن سبُل الله لا تدرك وأخمّن بدوري أن الله له في العقوبات وفي الجوائز شؤون.
لا يفوتني في الختام أن أوجّه تحية الصداقة إلى ثلاثة: الأولى مها يحيى التي يعود الفضل إليها في دفعي إلى وضع الدراسة التي هي عماد هذا الكتاب حين كانت مكلّفةً إعداد التقرير الوطني للتنمية البشرية وقد صدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بمشاركة من مجلس الإنماء والإعمار في سنة 2009. والثاني هنري لورنس وقد أعارني كرسيه العالي في الكوليج دو فرانس مدّة شهر من ربيع 2008 فأسفر ذلك عن صيغة فرنسية من الدراسة نفسها. والثالث فاروق مردم بك الذي نشر تلك الصيغة الفرنسية في السنة التالية في كتاب صدر عن دار أكت سود الباريسية. الشكر لهم إذن والشكر العميم لكم مرّة أخرى: لتشريفكم إياي بالجائزة وبالاحتفال ولحسن إصغائكم.




         



[1] MAE AD Nantes, Beyrouth, Cabinet politique n 454: “Michel Zaccour…quoique francophile professe un certain nationalisme libanais de tendance antimandataire. »
راجع فارس ساسين(إ): سليم تقلا  من بناء الدولة إلى معارك الاستقلال، دار النهار، 2006، ص 24 هامش 46. والإشارة إلى "الفرانكوفيلية" هي لتنزيه ميشال زكور عن العلاقة بالبريطانيين.   
[2] أحمد بيضون: رياض الصلح في زمانه، دار النهار، 2011، ص 103.
[3] Ahmad Beydoun: La Réforme orpheline ou la dégénérescence du Liban, Actes Sud, Paris, 2009.
[4]  "الأصول: من الجماعة المكتفية إلى الفرد الصعلوك"، ص ص 224-233.
[5] منشورات الجامعة اللبنانية، 1989.:كلمة ممثل لجنة المحكمين فارس ساسين:

Saturday, 8 June 2013

GHASSAN TUÉNI, L'ÉCLAIR TENACE







La lente et douce conversion de Ghassan Tuéni à l’absence du 8 juin 2012 nous frustre de percevoir, un an plus tard, toutes les magies de sa présence. Mais elle n’est pas le seul obstacle à nous en barrer le chemin tant nous avons perdu son sens du courage, du combat, de l’abnégation pour les causes justes, citoyennes, universelles et pour la liberté et les hommes libres.  Nous sommes éminemment étrangers à son espoir et à son imagination inépuisables à l’heure où le pourrissement et les agressions conspirent contre l’Etat légitime et un.
Plus d’un demi-siècle durant, Ghassan Tuéni aura été un éclair tenace illuminant les meilleurs ressorts du pays et cherchant à en communiquer la substance, amoureux du verbe et du style. Mais il était, aussi et avant tout, au cœur de la République, l’âme d’un combat incessant contre ses ennemis et même contre ses amis. Par le journalisme, la politique et la diplomatie, il mena des batailles pour un État souverain qui ne serait d’aucun clan et d’aucune communauté et resterait bien intégré dans son espace traditionnel arabe.
Et jamais sa confiance n’a failli et jamais ses efforts ne furent épargnés ! 

Thursday, 6 June 2013

L’INIMITABLE ET MIRACULEUX MUTANABBÎ












Sa poésie est-elle « une conception puissante et singulière de la foi » ou une vision profane du monde ?

Patrick Mégarbané: Mutanabbî, le prophète armé, 400pp, Sindbad Actes Sud, 2013. Mutanabbî : Le livre des Sabres, Choix de poèmes, Édition bilingue, Sindbad, Traduit de l’arabe, présenté et annoté par Patrick Mégarbané et Hoa Hoï Vuong, Sindbad, 2012.

          De prime abord, le titre de l’ouvrage Mutanabbî, le prophète armé choque. D’abord parce qu’il manque d’originalité : venant de Machiavel (Savonarole aurait été un « prophète désarmé »), il passe par Deutscher qui caractérise ainsi  le premier Trotski. Ensuite parce qu’il sied mal au grand poète arabe (915-965)  qui par son sobriquet d’Al Mutanabbî, le prétendant à la prophétie, a fait de sa prétention l’égale, au moins, de la mission sacrée[1] et qui nonobstant  ses faits d’armes, ses métaphores et thématiques guerrières nous demeure présent par le verbe, le vers et le poème. Mais le projet même de Patrick Mégarbané, la finesse de ses analyses, l’ampleur de son érudition et surtout la mise en cause de bien des idées reçues donnent à son livre un poids énorme et en font un passage capital pour toute étude et lecture futures du grand poète.
          Le projet consiste à lire Mutanabbî pour saisir ce qui lui vaut le rang sans rival dont il jouit dans la tradition poétique arabe depuis près de onze siècles. Le commentaire que Al Ma‘arrî (973-1057) lui a consacré porte pour titre Mu‘jiz Ahmad ce qui, vu que le second prénom d’Abû t-Tayyib est Ahmad, semble non seulement rendre Mutanabbî inimitable et ressortissant du miracle (mu‘jiz)[2] mais le présenter en concurrent du livre saint de l’islam dont l’i‘jâz (l’impuissance et l’incapacité à l’imiter)[3] est avancé comme une sinon la preuve probante du Message même. La teneur de l’éloge d’une aussi grande  autorité littéraire[4] vient à bout des contestations dont Mutanabbî est parfois, et de son temps déjà,  l’objet[5]. Elle donne une assise à ce que Mégarbané appelle avec raison « l’inébranlable ferveur de l’Orient » pour celui qu’il considère comme son plus grand poète. 
          Ce projet est d’autant plus radical qu’il s’oppose à une double lecture, celle de l’orientalisme et celle de la pensée arabe contemporaine. Régis Blachère consacre à  Abou t-Tayyib en 1935 une monographie[6] qui demeure l’ouvrage de référence et qui, sans « tricher » avec l’œuvre, en « propose une interprétation plate et ingrate » : Mutanabbî est un révolté qui s’inspire des principes qarmates pour son propre compte, c’est un poète appointé dont le fond insipide est revêtu avec peine par une forme travaillée…Quant à l’immense fortune de l’œuvre, Blachère, qui a été le plus loin pour tenter d’en rendre compte, évoque pour l’expliquer de nombreux arguments (« la bédouinité », « le ton épique », « le nombre de développements gnomiques », « un lyrisme d’ordre philosophique ») auxquels, dit Mégarbané,  il « ne croit pas vraiment…A peine allègue-t-il une raison qu’aussitôt il la réfute. » La critique arabe contemporaine ou bien s’est mise dans le sillage de Blachère (tel Taha Hussein) ou bien s’est trouvée incapable de « formaliser ce qui pourtant la fascine et la meut profondément. »
          La démarche de Mégarbané demeure très proche des poèmes de Mutanabbî, autant ceux qu’il a traduits avec un indéniable tact poétique (en collaboration avec Hoa Hoï Vuong) que ceux dont il n’a traduit - pour les citer dans son exégèse- que des fragments et auxquels il se réfère dans le Diwan originel. Elle  les suit chronologiquement en leurs quatre grandes époques : l’errance première, les périodes hamdanide (948-957), kafûrienne (957-962), buyide (962-965) les liant à l’épopée personnelle du chantre et mettant au jour ce qui caractérise chacune d’elle sur les divers plans. Elle utilise pour les appréhender « comme de simples outils » mais « d’une redoutable efficacité » les pensées de Nietzsche et de Deleuze (les forces active et réactive, le ressentiment…) Elle repère un réseau métaphorique qui trouve place dans un champ conceptuel où s’affirme un monde de conflits et d’illusion faisant place à une éthique noble de héros et à une esthétique de poète créateur. Elle fonde enfin cette puissante vision incarnée dans la qasîda et se renouvelant en elle et par elle  dans « le sens intime de l’islam » et « une conception puissante et singulière de la foi ».
          La richesse des analyses de Mégarbané et la densité de son texte rendent toute tentative de les résumer ici illusoire. Mais il nous faut convenir qu’elles ouvrent grande la voie à une exégèse de Mutanabbî digne de lui et qui saisit toute sa force. Ce que nous admettons moins, c’est l’ancrage du poète dans la foi alors que l’évidence poétique de cette œuvre (comme de celle de Ma‘arrî, plus explicitement philosophique) nous semble être dans une vision séculière du monde. Il faut dire que Mégarbané  n’est jamais totalement dupe de son érudition, que son islam est fuyant de sunnisme en chi‘isme en ismaélisme en autres ghulât et ce jusque Alamût Qu’il n’expose ses hypothèses qu’en les accompagnant de propos sur « l’équivoque »[7] possible, les paradoxes répétés[8], « l’ironie »[9] présente et les « sacrilèges »[10] certains.
          Mutanabbî a bien des accointances avec des idéologies religieuses, mais il ne cessera de nous renvoyer une image profane et libératrice.

* Partie d'un ex-libris représentant le chatr (hémistiche) d'un vers de Mutanabbî: "J'ai fréquenté Aristote et Alexandre" ainsi qu'un ivoire antique du Musée d'Alep figurant la lutte de deux sphynges.




[1] En langage beethovenien : il y a des centaines de prophètes (nabî), mais un seul Mutanabbî !
[2] Interprétation un peu différente de celle de l’auteur (p. 51)

[3] Cf. Dictionnaire du Coran, dir M.A. Amir-Moezzi, Paris, 2007, Art. « Inimitabilité » du Coran.  

[4] Sans en faire comme Mégarbané, l’autre “plus grand maître”de la langue arabe (p. 389) . Les poètes des mu’allaqât antéislamiques, Abû Tammâm, Jâhiz, Ibn Khaldoun…mériteraient aussi bien ce qualificatif. 
[5] On trouvera une petite liste des détracteurs de Mutanabbî et de leurs œuvres p. 37 et suivantes.
[6] Un poète arabe du IVe siècle de l’hégire, Abou t-Tayyib Al-Motannabî, Paris, 1935.
[7] « Et cette rhétorique, qui n’est jamais exempte d’équivoque… »p. 194.
[8] P. 322 et suivantes.
[9] « À mesure des poèmes, l’ironie des éloges ira croissante. » p. 113 et plus haut p. 112 et ailleurs.
[10] “Au delà du lyrisme et de l’emphase, ces discours sont doublement sacrilèges : aux oreilles d’un shiite légitimiste autant que pour un sunnite, ils sonnent comme un crime de lèse-majesté divine et humaine, un forfait passible de peine capitale. »  P. 195.