سيداتي سادتي، أصدقاء خالد ورفاقه، أيها
الجمع الكريم
لم أعرفه كثيراً، توافقنا ثم تخاصمنا، ثم باعدت بيننا المسافات. بقي
احترامي الودود له عبر التزامه
الصارم وعبر حرَمِه،الطالبة المميزة عائدة سلوم لاحقاً الفنانة المبدعة صانعة
الورود والأحلام ومبتكرة الخطوط والألوان.
لم أعرفه كثيراً لكني عرفتُ فيه المناضلَ المثابر، والرفيقَ
الأمين لمبادئ تنظيمه الثوري الإصلاحي، الرفيق الذي لا يكلّ ولا يتعب في عمل لا
ينتهي يستعاد كل يوم وكل لحظة، وعرفتُ فيه الإنسانَ المتميّز بأخلاقه المترفّعة
ولطفِه الأكيد وأناقتِه الدائمة وتواضعِه أمام المستقبلِ والقضية. نَهَلَ من أرضِ
البقاع وعنفوانِ فلاحيه وسكانه، ومن بلدة قب الياس السخية المنفتحة المعطاء، ليسكبَ
هذا الزخم في النضال الإجتماعي السياسي الوطني، وذلك في ظروف صعبة متقلبة تتطلب
اليقظة، والتكيّف، والحفاظ على المبادئ والخط الوطني، والأمانة للكادحين المستَغلّين.
جمع في عفوية ملساءالريفَ والمدينةَ، وإذا غلّبت فيه للحظةٍ أياً من الطابعين، لا
تلبث أن تندم وتدرك أن الوهم غرّر بك وقادك بعيدا.
إلى
نضاله اليومي وعمله التنظيمي وكتاباته الحزبية الدورية، شاء خالد مقاربة معضلات مجتمعاتنا والعصر
مقاربةً شخصية عميقة شاملة تندرج في الإطار الحزبي لكنها تُغنيه وتضيء ما يبقى خارج
المتداول المباشر وتتناول المصادر كلّها أو جلّها، فكتب ونشر دورياً في صحيفتي النهار
والحياة... ثم كانت له انطلاقاً من العام 2008 مصنفاتٌ عدّة بلغ عددها
الثمانية جمعت مقالاتِه وأضافت إليها فجاء كلّ منها موحّداً متكاملاً. وقلما خلا عام من الأعوام بين 2008 وعامِ رحيلِهِ
من كتاب له واجَهَ المسائل المطروحة بشجاعة، وسعةّ أفق،وبحث معمّق ورأي حاسم لا يُعوِزُهُ الوضوح ولا يخشى الحوار والجدال.
يجمع
عنوان مؤلف خالد غزال الأول المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات الحداثة
المركبة مجمل المسائل التي سيخوض فيها المفكر، لا بل لبّ المشاكل التي تعاني
منها مجتمعاتنا، إذ يضع وجهاً لوجه المجتمعات العربية (مع حرصه على إبراز تنوّعها وإيلاءه
الصدارة)وفرادة الأزمة المزمنة القديمة الحديثة وشمولها، كما يضع بإزاء بعضها
الحداثةَ (التي لا يستهين بتعقيدها وأبعادها، فيصفها بالمركبة) وإعاقاتِها
المتعددة الوجوه بدورها، فليس من أمر بسيط أو مبسّط في أي بُعد من أبعاد دنيا
المجتمع والإنسان. وتأتي المعالجة الوافية عند ذلك على قدرِ صعوبةِ المواضيعِ
وتعقيدها.
يرى
خالد غزال أن مشروع التحديث العربي انطلق مع قيام دول الاستقلال منذ خمسينات القرن
العشرين، لكنه وصل إلى "مأزق خانق" مع هزيمة حزيران 1967. وواضح أن
مسيرة جمال عبدالناصر في بناء الدولة، ونظيراتها الأقل إشعاعاً، تشكل الأفق التاريخي لهذه المسيرة. لم تكن
الهزيمةُ عسكريةً فحسب، بل نَجَم عنها الإنقضاض على الديموقراطية والحريات الفكرية
والسياسية والإساءة إلى أوضاع العاملين في ميادين الانتاج المادي والفكري وإغلاق آفاق
التقدم العلمي والتقني ونشر البطالة والأمّية وتفتيت أواصرالبنى المتكاملة القائمة...ويتابع
خالد معقّباًعلى نتائج الهزيمة:"شهِدت المجتمعات العربية انشداداً إلى الماضي
وتقديساً للموروثات وغرقاً في عوالم الخرافات والأساطير، وانبعاثاً للحركات
الدينية الأصولية بفكرها المتخلف ونزعاتها المتطرفة..." وهكذا ضُربت الحداثة
ومشاريع دولة العدالة والحريات والمواطنة لصالح البنى القبلية والعشائرية
والطائفية والإثنية، وهو ما قادَ بدورِه إلى الحروب الأهلية والمذهبية. هذا ويولي
الكتاب ومقالاته مساحة واسعة للنظام الطائفي في لبنان، لتمايزه والسلبيات.
خصص
خالد غزال، بعد فاتحة كتبه، معظم أبحاثه للتصدي للفكر الأصولي "تلك اللعنة
الفكرية المشؤومة على مرّ الزمن"، كما يقول. ولا ريب أن عناوين مؤلفاته خير
دليل على محتواها وجرأتها ونهجها: وجهاً لوجه مع الفكر الأصولي (2009)؛ الإسلام
والأسلمة، هوامش لنقد العقل والتاريخ (2015)؛ الأزمنة الدينية، النص سيف
السلطة(2017)؛الإصلاح الديني في الإسلام، قضايا في الإصلاح الديني (2018).
في
رؤية خالد، ليست الأصولية بما هي إدّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكارها، وبما
هي معاداةُ الديموقراطية ورفضُ الآخر واستخدامُ العنفِ وسيلة فعّالة، خاصةً بالأديان
بل هي ظاهرة تلازم المذاهبَ والتصرفات الإجتماعية كافة:الاصولية الفاشية-النازية،
الأصولية الشيوعية، العَلمانية الأصولية بما هي هيمنة الدولة على الدين، الأصولية
العلميّة التي لا ترى خلاصا للبشرية إلا في العلم وعَبرَه. والأصولية هذه ليست
خاصة بدين، بل هي دخلت اليهودية والمسيحية والإسلام. والأصولية هذه وجَدَت دائما
من واجهها من كبار المفكرين: المعتزلة، ابن رشد، علي عبد الرازق، طه حسين، وصولا
إلى نصر حامد ابو زيد ومحمد أركون...طبعاً لم أذكر كل من تناوله خالد بالبحث لكنني
بيّنت بعضا من سمات اسلوبه: وضع الظاهرة في اطار أعمّ وأشمل، تبيين المقاومة
الفكرية الدائمة للأصولية، إيلاء الأولوية للفكر العربي...
في
الإسلام والأسلمة، هوامش لنقد العقل والتاريخ (2015)، يُدرج خالد غزال تحت
عنوان أول،"نقد العقل الإسلامي"، مراجعاته لأهم الكتب التي دعت بوضوح
وصراحة إلى إعادة قرأة النص الإسلامي المقدس والفكر والتراث اللذين نجما عنه وفي
طليعة هذه الكتب كتب محمد أركون ونصر حامد أبو زيد...ويدرج تحت عنوان ثانٍ
"الإسلام بين الرسالة والتاريخ" مراجعاته لعبد المجيد الشرفي وجورج
طرابيشي وياسين الحاج صالح ...التي تميّز بين الإسلام عند نشأته والرسالة التي قال
بها، والتحوّلات التي شهدتها الرسالةُ على امتداد التاريخ وتحوّل الإسلام إلى قوة
عسكرية فاعلة في المجتمعات وعلى صعيد المعمورة. أمّا القسم الثالث، فيحمل العنوان
الآتي:"الإسلام واحداً ومتعدداً" وهذا العنوان هو في الأصل لسلسلة كتب
أشرف عليها عبد المجيد الشرفي نذكر منها "الإسلام العربي"
و"الإسلام الكردي" و"الإسلام الأسود" و"الإسلام
الأسيوي" ...وتقول باستحالة إسلام
واحد في كل أمكنة العالم فالإسلام في كل ما ليس جوهر العقيدة تكيّفَ ويتكيّفُ مع
الثقافات التي يَدخلها.
مع الربيع العربي وانتشار الانتفاضات الشعبية
وازدياد حدّة الصراعات بين الأنظمة التي تدّعي الارتكاز على الدين في شرعيتها، لم
يغيّر خالد غزال وجهة تفكيره بل سعى إلى توسيعها وتعميقها وإلى كسب المزيد من
المؤيدين للخيار العقلاني الديموقراطي الحداثي. في كتابه الأزمنة الدينية، النص
سيف السلطة(2017) نراه يفتح باب علم الاجتماع الديني على مصراعيه، فيخوض في
جوهر الأديان والحاجة اليها ومكوناتها العقائدية والعملية. هذا ولا يقتصر بحثه على
الأديان التوحيدية الثلاثة، بل يعود إلى مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين
واليونان ويصل في ترحاله إلى الهند والصين.وبعد أن يظهر الوحدة بين الأديان في
عقائدها الماورائية وقيمها الأخلاقية واختلافها في هذين المضمارين، يرجع إلى
الإسلام السياسي متسائلا عن مستقبله مُظهراً بعدَ نظر في التأكيد على عجز القمع عن
اقتلاعه داعياً إلى مواجهة متعددة الوجوه معه:"سياسية، اقتصادية، فكرية، ثقافية،
علمية، دينية."
في كتابه
الأخير،الإصلاح الديني في الإسلام، قضايا في الإصلاح الديني (2018)، يضع
خالد غزال مفهوم الإصلاح موضع التنفيذ سعياً منه لابراز الوجه الحقيقي للإسلام.
الإصلاح الديني لا يتناول العقيدة ولا يمكن أن يتناولها لأنها من الثوابت.
عليه إذا أن يتناول الشريعة وترجمتها في الفقه وتحكّمها بالعادات والتقاليد
وتفاصيل الحياةِ كافة. الشريعة نتاج بشري تاريخي أنتج على مدّ العصور لذا يمكن،
ومن دون شطبه، تعديلُه وفق ما استجدّ وما حدث في ميدان تحررالمرأة والتعليم
والأحكام والحدود والمؤسسة الدينية وغيرها...
هذا وأصدر خالد
غزال بين كتابيه الأولين وكتبه الأخيرة ثلاثة كتب تندرج في خطه الملتزم العام
وتقترب إلى هذا الحدّ أو ذاك من مواضيع مصنفاته الأخرى. أولها البؤس النهضوي، مسائل ثقافية من زمن الهزيمة
(2012) وهو يتناول الانحدار العربي الشامل الذي تبع هزيمة 1967 وتناول الاقتصاد والسياسة
والثقافة وفكك أواصر الدولة العربية موصلا مجتمعاتها إلى الحروب الأهلية. إنتشر ما
يسميه المؤلف "الثالوث غير المقدس": تآمر، تخوين، تكفير، وصعدت صور من
يسميهم "فرسان البؤس النهضوي": أسامة بن لادن، أبو مصعب الزرقاوي، منتظر
الزيدي، وغلبت ثقافة الموت على ثقافة الحياة، والخرافة على إعمال العقل،والرقابة
على الحرية وهلم جراً.
يُظهر
خالد في الانفجار السكاني في العالم العربي (2013) أن الانفجار السكاني لا
يشكل لبّ مشاكل المجال العربي نظراً للمساحات الواسعة فيه ولموارده الاقتصادية الكبيرة.
قلب المسألة هو نهب ثروات هذا العالم من قِبَل المجموعات الحاكمة وحرمان الشعوب
منها وتوظيفها خارج تطور المجتمعات.
وفي كتابه من
الدين إلى الطائفة، في ضرورة الدولة المدنية (2014) يسلّط خالد غزال الضؤ على
تحوّل الأديان ، التي وُجدت برأيه في الأصل لخدمة الإنسان ودعت إلى العدالة
والمساواة واتسمت بالمطلق الأخلاقي والإنساني والروحي ، إذا يسلّط الضؤ على تحوّل
هذه الأديان إلى مذاهبَ وطوائفَ تدّعي كلٌّ منها انتساب الله إليها وتمثيلها وحدها
له وشرعية كل وسيلة لمواجهة الآخرين وفي طليعتها العنف. ويدعو نتيجة ذلك إلى دولة
مدنية قوامُها المواطنة وفصل الدين عن الدولة والديموقراطية وفصل السلطات واعتماد شرعة
حقوق الإنسان، مبيّنا العقبات التي تحول دون تحقّقها في العالم العربي، دارساً
مكانتها في انتفاضات الربيعِ المستمرّة،مشدداً على الحاجة الماسة إليها.
غاب عنا خالد
بعد صراعات عديدة أليمة وسعيدة، لكنه أبقى لنا عائلة جميلة فاضت قوةُ محبته لها في
إهداءات كتبه، وتنظيما سياسيا كان له شخصياً اليد الطولى في رسم سياسته الجديدة،
وأبقى لنا عَبرَ كتبِه رسالة الاعتدال والانفتاح والتسامح وإعمال العقل والسعي إلى
مجتمع مدني يولي الإنسان والحرية والعدالة الموقع الأول.
نم قرير العين
يا أبا سليمان!
قب الياس، أيلول 2019
مؤلفات خالد غزال
1-المجتمعات العربية المأزومة وإعاقات
الحداثة المركبة، دار الطليعة، 2008.
2- وجهاً لوجه مع الفكر الأصولي،
دار الطليعة، 2009.
3- البؤس النهضوي، مسائل ثقافية من
زمن الهزيمة، دار النهضة العربية، 2012.
4- الانفجار السكاني في العالم
العربي، دار النهضة العربية، 2013.
5- من الدين إلى الطائفة، في ضرورة
الدولة المدنية، دار الساقي، دار الساقي، 2014.
6- الإسلام والأسلمة، هوامش لنقد
العقل والتاريخ، دار العودة، 2015.
7- الأزمنة الدينية، النص سيف السلطة،
بيسان، 2017.
8- الإصلاح الديني في الإسلام،
قضايا في الإصلاح الديني، بيسان، 2018.
No comments:
Post a Comment