Monday 20 August 1979

MICHEL FOUCAULT 1979


ميشال فوكو و فارس ساسين - 1979

الانتفاضة هي "افتتان" و"نشوة" و"مأساة اغريقية"
"أين هي الحركة الدينية التي جعلت الجنة على الأرض؟"

ميشال فوكو واحد من أبرز الوجوه الفكرية الفرنسية، ولد في بواتييه(1926) ونشر تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي (1961) الذي تمحورت فيه اهتماماته اللاحقة: العلاقة بين البنى السياسية والعلوم، وبعبارة أخرى بين السلطة والمعرفة.
في العام 1966، أثار كتابه الكلمات والأشياء ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية ورأى فيه موريس كلافيل، أهم كتاب يصدر منذ نقد العقل الخالص للفيلسوف الألماني عمانوئيل كنط. وعُدّ فوكو إثر هذا الكتاب مفكراً بنيوياً لأنه يشدد على دراسة البنى الداخلية للأنظمة الفكرية، وينادي ب"موت الإنسان" كمفهوم شامل. لكن دراسات فوكو المنهجية والتاريخية بدّدت هذا التصنيف المتسرع. هذا ولعنوان الكتاب قصة، اصر فوكو على روايتها في حديثنا.. كان العنوان الأصلي نظام الأشياء، لكن تبين للناشر أن مؤلفا آخر سيصدر في الموسم الثقافي ذاته حاملا العنوان ذاته. تدخل فوكو وغاليمار (الناشر) مع صاحب المؤلف لتغيير عنوانه، لكن محاولتهما باءت بالفشل. وأرغم فوكو على تغيير عنوان الكتاب فأطلق عليه عنوان الكلمات والأشياء، مما قاد إلى الظن أنه مصنف يبحث في الألسنية، مما ساهم في سوء الفهم الذي وقع الكتاب ضحيته. ويؤكد المؤلف أنه يشترط اعتماد العنوان الأصلي في ترجمة الكتاب إلى اللغات الأجنبية.
درس فوكو "ولادة السجن" والانظمة العقابية الحديثة في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر في كتابه المراقبة والمعاقبة (1975) الذي يحلّل اجهزة السلطة. ونشر عام 1977 الجزء الاول من تاريخ الجنس تحت عنوان إرادة المعرفة وبرهن فيه أن العلاقة بين الرغبة والسلطة ليست بالبساطة التي يتصورها دعاة التحرر الجنسي.
ويمكن القول إن مفتاح المنهج الفوكوي متضمن في كتابه أركيولوجيا المعرفة.
أثارت أحداث إيران اهتمام فوكو فقام بزيارتين الى هناك للتعرف عن كثب الى هذه الظاهرة "الثورية – الدينية"، متخذاً موقفاً خلق ردود فعل مختلفة. فما هو رأي فوكو الان في هذه الظاهرة بخاصة وفي علاقة الدين بالسياسة بعامة؟
س- ميشال فوكو، ما الذي جعلك تهتم بموضوع ايران؟
ج- بينما كنت اقضي فترة نقاهة في الصيف الفائت بعد حادث صحي ألمّ بي، قرأت كتاباً لم يشتهر في فرنسا ولم يكن له فيها صدى كبير. هذا الكتاب هو مبدأ الأمل لأرنست بلوخ. وتراءى لي أن هذا الكتاب يطرح مسألة جوهرية هي مسألة الرؤية الجماعية للتاريخ التي بدأت تتبلور في أوروبا في القرون الوسطى. فحْوى هذه الرؤية هي إدراك إمكانية وجود عالم آخر وافضل على هذه الارض ورفض واقع الاشياء وعدم اعتباره امراً ثابتاً ونهائياً والسعي الى اكتشاف ثغرة ونقطة تضيء وتجذب داخل الزمن والتاريخ وتتيح الانتقال الى عالم افضل على هذه الارض الفانية.
إن جذور هذه الرؤية دينية. والفرق الدينية المنشقّة هي التي حملتها ونظمت تحت لوائها انتفاضات شعبية كبيرة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وقد بلغت هذه الرؤية اوجها إبّان عصر النهضة اي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، واستمرت عبر الحروب الدينية.
أثارت هذه الاطروحة حول النشوء الديني لفكرة الثورة اهتمامي وبدت لي تاريخياً صحيحة وإن كانت معالجة بلوخ لها غير مرضية كلياً من وجهة نظر علمية تاريخية.
وبينما كنت أطالع هذا الكتاب، كانت الصحف تتناقل يومياً أنباء إيران: انتفاضة جماهيرية واسعة يواجه فيها شعب بأكمله أجهزة السلطة، انتفاضة لا يقودها حزب سياسي أو مجموعة من المنظمات السياسية، انتفاضة لا تقودها ايديولوجية ثورية مستوحاة من الغرب، بل يلعب فيها العامل الديني دوراً كبيراً، فربطت بين ما كنت اطالعه عن تلك الحقبة من التاريخ الاوروبي وبين ما كان يحدث في ايران واردت ان اشاهد عن كثب ما يجري هناك.
ذهبت الى ايران وفي ذهني السؤال الآتي: ما العلاقة بين الثورة السياسة والآمال الدينية؟
س- كان اهتمامك إذا نظرياً. كم مرة ذهبت الى ايران؟
ج- مرتين. ولم تتجاوز اقامتي فيها الخمسة أو الستة اسابيع. وقمت بالاتصالات التي يمكن لغربي في ظروف مماثلة أن يقوم بها. اجتمعت بأوساط طهران الجامعية، وبالعديد من الشباب والشابات الذين تركوا الجامعة أو لم يدخلوها اصلاً، ولعبوا دوراً في الانتفاضة الثورية. والتقيت كذلك عددا من رجال السياسة الذين احتلوا في طهران أعلى المراكز بعد سقوط الشاه، بينهم رئيس الحكومة... وفي قُم اجتمعت بشريعتمداري. وفي عبادان تحدثت الى مجموعات من عمال النفط المضربين. إلتقيت ايضاً بعض موظفي الادارات. لكن ما لم يتح لي هو مشاهدة ما يجري في الأرياف، فظلت معرفتي محصورة بالمدن الثلاث: طهران وقم وعبادان.
س- هل اجمتعت بآية الله الخميني؟
ج- كلا. لم يكن يهمني ما يجري في رؤوس القادة وإنما ما يحدث في ايران نفسها. كان محور اهتمامي أنماط ممارسات الشعب الثائر.
خطأ التحليل الاوروبي
س- ما هي في رأيك السمات التي ميزت الانتفاضة الايرانية؟
ج- في هذه الفترة كانت معظم التحليلات في اوروبا عامة وفرنسا خاصة تؤكد عجز الشعب الايراني عن تكوين إيديولوجيا ثورية ومقال ثوري ومنظمات ثورية، بالمعنى الغربي لكلمة الثورية، لذا انكفأ الى الاسلام وانطوى عليه.
بدا لي أن هذا التفسير لاحداث ايران غير صحيح. فلم يلعب الاسلام دوراً بديلاً غائباً. والادارة التي قادت التحرك الشعبي الواسع الذي جابه خلاله ملايين الاشخاص الجيش واجهزة القمع الاخرى، والتي اعطت هذا التحرك زخما وقوة، كانت في الوقت نفسه، سياسية ودينية. وما جرى في ايران في القرن العشرين شبيه بما جرى في اوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر عندما انتفض "الأنابابتيست" ضد السلطة السياسية واستمدوا قوة انتفاضتهم ولغتها من معتقدات وتطلعات دينية صادقة وعميقة.
س- قلت إنك رأيت في ايران إرادة عامة (اي اجماعاً شعبياً) كنت تعتبرها قبل ذلك "خرافة سياسية" او افتراضاً ذهنياً.
ج- لم تتح لي تجربتي كأوروبي سوى مشاهدة "ارادات عامة" مفوضة أو ممثلة أو متحركة من قبل هيئات سياسية وتنظيمات سياسية وقادة سياسيين في اوروبا. اعتقد مثلاً – ولنكن بذلك صريحين مع انفسنا – ان تمثيل ديغول لفرنسا عام 1940 قد يكون امراً واقعاً. لكنني اعرف جيداً – وكنت طفلاً يومذاك – أن إرادة الفرنسيين العامة لم تكن الى جانبه. كان تمثيل ديغول لفرنسا أمراً مستحباً على الصعيد السياسي ولعب دوراً تاريخياً مهماً لكننا لا نستطيع أن نقول أن ارادة الفرنسيين العامة تمثلت في ديغول.
الرؤية الأخروية
وقلما نجد "الإرادة الشعبية" في الانظمة الديموقراطية التي يتحدث فيها النواب والوزراء ورؤساء الجمهورية باسم الشعب. ونجد في المنظمات السياسية التي تدعي امتلاك تطلعات الشعب الاساسية قيادات كثيرة واجهزة بيروقراطية واسعة وتراتباً هرمياً واحتكاراً للسلطات. لذا بدا لي، قد اكون مخطئاً في هذا المضمار، ان الايرانيين الذين نزلوا ، في ايلول 1978، الى الشارع ليواجهوا الدبابات، لم يفعلوا ذلك مرغمين. ولم تعرّض مجموعات سياسية أفرادها للأخطار زاعمة تمثيل إرادتهم. نزل الشعب كله الى الشارع ورفض النظام المفروض عليه. وقد اثارت هذه الظاهرة الفريدة انتباه جميع الذين تابعوا الاحداث.
س- على ماذا اجمعت هذه الارادة العامة، اذا استثنينا رفض سلطة الشاه؟
ج- هذه نقطة صعبة التحديد وقابلة للاخذ والردّ. يدّعي بعض المراقبين أن الايرانيين اجمعوا فقط على رفض النظام القائم. لكن، ما اعتقده شخصياً، هو أن الايرانيين كانوا يريدون شيئاً آخر. ولم يكن ما ارادوه نظاماً سياسياً بديلاً عن نظام الشاه، ولا نظام رجال الدين. وقد سبق أن قلت هذا بوضوح. ما شدّ عقولهم وانظارهم عندما واجهوا يومياً خطر الموت كان نوعاً من الرؤية الأخروية اي انهم لم يطمحوا الى نظام سياسي جديد بل سعوا الى إنجاز نوع من الرؤية الدينية الأخروية.
س- وكانوا يطمحون الى تحقيقها على الارض...
ج- هذ ما طبع انتفاضتهم وما مدها بالقوة وليس فقط رفض الفوضى والتبذير والاحتكار والاستغلال والقمع والمذابح...
أرادوا مجتمعاً بلا دولة
س- يقودنا هذا الى مفهوم "الحكم الاسلامي". قلت إن التقاء هاتين العبارتين (حكم وإسلام) يؤدي الى واحد من احتمالات ثلاثة: التوافق والتناقض والابتكار. فما هو رأيك بعد تطور الاحداث؟
ج- بدا مفهوم الحكم الاسلامي منذ البداية ملتبساً وغامضاً. وقد طرحت اسئلة عديدة على شريعتمداري ومهدي بازركان. تحدثت جميع الاوساط عن الحكم الإسلامي دون أن تبلور هذا المفهوم. وضمانات رجل دين معتدل مثل شريعتمداري ووعوده لم تكن توحي كلياً بالثقة. فلا يكفي أن يقول رجل الدين: سنحترم الأقليات ونسمح بوجود الشيوعيين لطمأنة المراقبين. فعلى المثقف أن يظل متيقظاً.
عندما كان جميع الناس يتكلمون عن الحكم الإسلامي أو يفكرون فيه، كانوا يقصدون بذلك نوعا من التعايش اللاسياسي واسلوبا في الحياة الجماعية لا يشبه من قريب أو بعيد الأنظمة السياسية الغربية.
أما ما نسير اليه اليوم فهو نوع من أنواع الحكم (توافق؟ تناقض؟ ابتكار؟). كانت أسئلتي تدور حول المحور الآتي: هل يمكن، انطلاقاً من مفهوم الحكم الاسلامي الملتبس والغامض والذي يمكن ان يتحول الى حكم رجال الدين، هل يمكن انتاج شيء جديد؟ هل تتيح الظروف ومختلف الضغوطات الاقتصادية والسياسية لايران الوصول الى مجتمع جديد؟
كان ثمة قاسم مشترك بين كل الذين تحدثوا عن الحكم الاسلامي، من عمال عبادان الى مهدي بازركان وشريعتمداري. كان هذا القاسم محاولة الوصول الى أنماط من التعايش الاجتماعي وأشكال من التساوي لا تشبه أيا من الأشكال والأنماط الغربية.
س- هل كانوا يتوقون، بنظرك، الى نوع من "مجتمع بلا دولة"؟
ج- اذا شئت. لا بل هذه ما ارادوه بشكل أكيد. لكن كل هذه المفاهيم كانت غامضة ومتداخلة.
س- ينظرون الى الاسلام عادة على انه دين ودولة، فهل يمكن للإسلام أن يلعب دور نقيض الدولة؟
ج- هذا ما كانوا يؤكدونه في احاديثهم. قالوا لي مراراً: لما كان الاسلام على ما هو عليه، فانه يقي من كل الاخطار التسلطية التي تحملها اكثر اشكال الانظمة الديمقراطية عقلانية واعتدالاً.
س- ومفهوم "الروحانية السياسية" الذي اطلقته ابان الاحداث والذي اقام الدنيا ولم يقعدها بعد؟
ج- إن ما يحصل في ايران يشبه السعي الى روحانية سياسية وان هذا المسعى كان مألوفاً وواضحاً في القرن السادس عشر في أوروبا. وليس في ما قلته ما يزعج احدا. يمكن الرد عليّ: إن هذا ليس بصحيح وان الايرانيين لم يتوقوا الى روحانية سياسية. ولكن ان يقال، كما ورد في صحيفة لوموند، انني انا شخصياً اتوق الى روحانية سياسية، انها فضيحة.
ما قلته هو الآتي: انني شاهدت في ايران حركة غريبة لا يمكن فهمها إلا عبر مقارنتها باحداث جرت في التاريخ الاوروبي، وما جرى في اوروبا في القرون الوسطى وفي عصر النهضة والبحث عن روحانية سياسية. وثمة دليل على ذلك لا يمكن تجاهله لان له استمرارية في عصرنا اي في اوروبا المعاصرة، وهو "الكالفينية". ما هي الكالفينية؟ إنها ليست معتقداً أو تنظيماً دينياً فحسب. انها اردة تسعى الى تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية انطلاقاً من رؤيتها لعلاقة الانسان بالله وبالقيم الروحانية. والعديد من الحركات البروتستانتية تشبه في جوهرها التاريخي الانتفاضة الايرانية.
الروحانية السياسية
لم أقل يوماً إن الروحانية السياسية تطلُّع يمكن أن يحل مشاكل الغرب المعاصر. واكبر دليل على ذلك اننا في حاجة الى مقارنة تاريخية لفهم هذه الظاهرة. ولم أقل يوماً إن بإمكان "الروحانية السياسية" ان تحل كل مشاكل ايران. يكفي أن نعيد الى الذاكرة ما جرى في اوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لندرك مدى الاضطهاد والقمع اللذين قادت اليهما هذه الحركات. الم تقد الكالفينية الى نصب عدد من المحارق؟ اين هي الحركة الدينية التي استطاعت أن تجعل الارض جنّة؟
لقد وصفت ما شاهدته. ربما اخطأت في الوصف. اما أن تنسب اليّ أفكار لا علاقة لي بها فأمر مشين.
س- لكنك تتعاطف مع التحرك في وصفك له...
ج- أولاً: لا يمكن فهم اي تحرك تاريخي أذا اتخذ الدارس منه موقفاً سلبياً ولو لم اتعاطف مع هذا التحرك، لما ذهبت اصلاً الى ايران.
ثانياً: قد تعتمد الحركات الثورية ما يسمى في بلدان العالم الثالث الخلفية الحضارية لكل بلد بدل أن تنقل النموذج الغربي الماركسي أو الليبرالي. وهذه ظاهرة قيد الانتشار وهذا ما يجري حالياً في افغانستان. وعلى المؤرخ أن يعير انتباهاً لكل ما يجري في زمنه.
ثالثاً: اذا كان تعاطيّ مع التحرك قد تخطى الفضول العلمي والسياسي فلانه واجه نظام الشاه القامع والاستغلالي والخاضع كلياً للامبريالية.
رابعاً: لولا الاسلام لما كان للتحرك هذه القاعدة الشعبية الواسعة، ولما وصلت اصداؤه الى اقاصي الارياف الايرانية. لقد تعرّف الشعب على ذاته في الانتفاضة ورأى في لغتها واهدافها لغته واهدافه. ولو جرى هذا التحرك تحت لواء الصراع الطبقي أو المطالبة بالحريات العامة لما كانت له هذه الاصداء، ولما تمتع بهذه القوة الكبرى.
لكن هذا التعاطف لم يقدني يوما الى القول:
1- يجب تقليد ما جرى في ايران ونسخه في الغرب.
2- ستقود هذه الانتفاضة الى الفردوس الارضي. لا بل كنت بعيداً كل البعد عن هذين التأكيدين.
كنت إذاً أطلق أحكاماٌ واقعية على قوى اجتماعية قمت بدراستها وايدتها في هدفها المباشر الذي هو قلب نظام الشاه الارهابي.
جرح الغرب
س- ليس لك أي علاقة اذا بتيار "العودة الى القدسية" الرائج حالياً في فرنسا؟
ج- لا من قريب ولا من بعيد. أنا، كفرد ينتمي الى الحضارة الغربية، لم أتخذ يوماً موقفاً علنياً من الدين وهذه قضية لا تعني احداً سواي. وتمنعني رؤيتي التاريخية والتعددية النسبوية من حمل لواء الانتفاضة الايرانية كوسيلة لاعادة تجديد الغرب وللعودة الى المقدسات.
يبقى السؤال التالي: لماذا شكلت الانتفاضة الايرانية جرحا عميقاً في الغرب؟ ولماذا اغدق عليّ الغرب صفة النبي المتعصب لمجرد أنني وصفت ما يجري هناك؟
س- هل توافق على ما قيل لك في طهران من أن الإسلام ضمانة تحول دون طغيان الدولة؟
ج- أشك في ذلك. ويعود هذا الموقف الارتيابي الى جهلي بحقائق الاسلام. ثم ان ما أعرفه عن تاريخ الاسلام لا يشكل في حد ذاته ضمانة يمكن الركون اليها تميزه عن سائر الاديان. واخيراً، لم ينبثق الاسلام الشيعي في ايران مباشرة من الدعوة النبوية. فلرجال الدين الشيعة تاريخ خاص يميزهم ويرتبط باشكال مختلفة من المؤسسات والهيمنة والمساعدات الجماعية...
الاسلام كحل؟
وهذه المسألة تعني بشكل رئيسي المسلمين انفسهم. فالعديد منهم يطرح السؤال التالي: هل يمكن في سياق الأحداث العام وفي الاوضاع الحالية الاعتماد على الاسلام وعلى الحضارة الاسلامية لاستنباط نظام سياسي جديد؟ وكان هذا السؤال في صميم اهتمامات العديد من المسلمين المتنورين الذين التقيت بهم. وهذا هو السؤال الذي حاول علي شريعتي الاجابة عنه. وهذا هو السؤال الذي طرحه امامي مهدي بازركان وشريعتمداري. تابع مسلمو اوروبا الذين اعرفهم احداث ايران باهتمام حاد وترقب وصمت. ويعود هذا الى انهم كانوا يطرحون على انفسهم هذا السؤال: اذا فشلت التجربة الايرانية واذا استولى على الحكم رجال دين طغاة وجهلة أفلا يعني هذا، وبالاحرى، افلا يدل هذا على استحالة اعتماد الاسلام والثقافة الاسلامية للبحث عن نظام سياسي جديد؟ اوليس نجاح التجربة الايرانية نجاحاً للاسلام؟
فما أريد ان الفت اليه الانتباه هو ان مسلمي اوروبا لم يخرجوا عن صمتهم رغم الحملات الصحفية الفرنسية المسعورة. ويعود ذلك في رأيي الى الآمال الكبيرة التي علقوها على الثورة الايرانية والى الخوف من انهيار هذه التجربة. ولا بد انهم الان يراقبون عدداً من الاشياء التي تجري في ايران بمزيج من المرارة والقلق والضغينة.
"مبدأ الأمل"
س- هل ثمة ما تضيفه لتفسير الموقف الاوروبي في الانتفاضة؟
ج- إن اوروبا عاشت فترة طويلة على "مبدأ الامل" بعد أن محورته حول فكرة الثورة السياسية وملحقاتها: الاحزاب والطلائع والطبقة العاملة...الخ...
ونعلم الوم الى اية مآسي قادت هذه الفكرة. لذا فان اي انتفاضة تخرج على اطر القوالب الاوروبية تثير نوعاً مما يمكن تسميته "الغيرة الحضارية": لن يقوموا بثورة ناجحة باساليبهم الخاصة ونحن فشلنا عندما اعتمدنا اساليبنا، سبقناهم الى فكرة الثورة، واخترعناها، وبلورناها ونظمنا حولها معارف وعلوما وادخلناها في اطار النظم السياسية والحزبية، لذا لن ينجحوا هم حيث فشلنا نحن، اقترح هذا التفسير لكني لست شديد الثقة به.
س- تتحدث عن "لغز الانتفاضة" وتقول ان الانتفاضة عامل "خارج التاريخ" ثم تقول:"الانتفاضة تستعصي على كل تفسير". لماذا يشكل الانسان الثائر لغزاً؟ او ليس اللغز خضوع الانسان؟
ج- انك تطرح هنا سؤالاً مهما وخطيراً. سأجيب عنه دون ان أكون واثقاً من صحة جوابي ودون أن اكون واثقاً أن هذا الجواب هو جوابي النهائي. يبدو لي أن آلاف الاسباب تدعو الإنسان الى الخضوع. ستجدني فجأة هيغليا، لكن العبد الذي يفضّل حياته على الموت ويقبل بالعبودية يستمر في الحياة. ينتهج واحداً من سبل الخنوع. ولكن ما يبدو لي لغزاً هو مخالفة الانسان لهذا النمط من الحسابات الواضحة والسهلة عندما يقول:" افضل أن اموت تحت وابل من الرصاص على الموت جوعاً، افضل أن اموت اليوم ثائراً، على الاستمرار في الخمول تحت هيمنة سيد فرض عليّ، افضل أن اختار الموت على الموت دون اختيار. فاختيار الموت بديلاً عن الموت البطيء يفترض قطيعة كاملة مع كل العادات والتكيفات والحسابات التي تشكل نسيج الحياة اليومية.
فعندما تقع انتفاضة تاريخية، يمكن للمؤرخين وعلماء الاقتصاد والاجتماع الذين يستلهمون النموذج الماركسي في تحاليلهم ان يفسروا الظروف التي احاطت بالانتفاضة والاسباب التي أدت اليها والشعارات التي حملتها الثورة وتداولتها. لكن قرار الانتفاضة يبقى خارج هذه التحليلات التي لا بد منها والتي تعجز عن تفسيره. الا انني عندما قلت ان الانتفاضة عامل خارج التاريخ لم أعنِ ابداً أنه عامل خارج الزمن.
مواجهة الموت
والمؤرخون في فرنسا يسعون منذ فترة الى التقليل من اهمية الحديث. ورأيي أنه يجب أن نعود إلى دراسة الواقعة التاريخية والثورة واقعة تاريخية. أدرك الفرنسيون في فترة معينة أنهم في صدد القيام بثورة وقاموا بها لأنهم أدركوا ذلك. وهذا عامل مهم سياسيا ويقطع حبل الاستمرارية الاجتماعية. عندما كانوا ينصتون لخطاب دانتون، أو يجتاحون الجمعية العامة... كانوا يدركون أنهم يصنعون التاريخ.
وفي إيران عام 1978، كان الشعب يدرك أنه يقوم بعمل. وأن هذا العمل ثورة وانتفاضة. وأن هذه الانتفاضة هي تحرر من نمط معين من الرتابة التاريخية.
الاسباب والدوافع شيء ومواجهة القرارات التاريخية شيء آخر. فخطر الجوع لا يفسر العزم على الانتفاضة. كل فرد وكل شعب يوازن بين التضحيات والآمال ليحسم قرار المواجهة بحياته مواجها الجيش والشرطة وسائر أجهزة القمع.
ويتخذ قرار المجازفة بالحياة اشكالا متعددة: تنظيم حرب عصابات، عمليات فردية، انتساب إلى حركات جماهيرية، مظاهرة ذات طابع ديني، موكب جنائزي... وإنني أطلق على هذه الاشكال تسمية "درامارتوجية المعاش الثوري". وهي أمر لا بد من دراسته لأنها تشكل التعبير الحسي عن قرار المجازفة بالحياة وكسر الاستمرارية التاريخية. وهذا القرار هو محرك الثورة.
س- يقوم القسم الأكبر من مؤلفاتك على دراسة أجهزة السلطة (المستشفى، السجن...) فهل الانتفاضة عامل دخيل لا ينسجم مع دراساتك كما يوحي بذلك بعض المفكرين مثل كاستورياديس؟
ج- عندما درست أجهزة السلطة، لم أزعم يوما أنها تشمل الحياة الاجتماعية كلها وأنها تستنفد التاريخ. أكتفيت بدراسة أجهزة بدت لي مهمة في حقبات معينة من التاريخ.
وأظهرت في دراستي أن السلطة ليست جوهراً، وأنها ليست ملكية طبقة اجتماعية، وأنها ليست نوعا من القدرة ينتجها جهاز الدولة. ثمة علاقات سلطة بين الناس وعلاقات السلطة بين الافراد غير متسقة.
السلطة علاقة. وكل علاقة تفترض طرفين. ويؤدي تغير أي من الطرفين إلى تغير العلاقة. ليست السلطة بنية تسجن العناصر في مواقعها. إنها شبكة علاقات متغيرة، متحركة، قابلة للتعديل وواهية. واذا كانت العلاقة السلطوية دينامية وتحدد، الى حد ما، موقع كل من الطرفين فان مواقفهما يؤديان بدورهما الى تعديل العلاقة.
لا يمكن أن نقول اذا: السلطة والناس عاملان منفصلان. لان ذلك يؤدي بنا الى أحد احتمالين: سلطة قادرة كلياً وسلطة عاجزة كلياً. وليس هذا بصحيح لأن كل سلطة مزيج من القدرة والعجز، من الادراك والجهل... وكل من الطرفين يحدّ من سلطة الآخر. ويهيمن الاستقرار حيناً وتهيمن الانتفاضة حيناً آخر.
الحقوق؟
س- بين السلطات والانتفاضات ادخلت مفهوماً ثالثاً هو الحقوق. ما هي طبيعتها وعلى أي اساس تقوم؟
ج- في نظمنا الاجتماعية التي تضم الدولة والاجهزة السلطوية الاخرى، تساهم سلسلة من التقنيات في تحويل عملية حكم الناس الى ممارسة ممكنة. ولما كان تأمين الاستقرار يفترض تنوع اجهزة السلطة وتكاثرها، نزعت كل سلطة الى توسيع سلطتها.
دور المثقف هو في مواجهة السلطات عبر تعيين الحدود العامة التي على كل سلطة الا تتعداها. الحقوق هي اذا ضمانة عدم تجاوز السلطة لحدود معينة. وهذه الضمانة مؤقتة وضعيفة وتتطلب دفاعا دائماً عنها.
س- ما هو مصدر هذه الحقوق؟
ج- الحقوق ظاهرة شاملة لانها تقوم بمواجهة انظمة سلطوية تعمل في جميع المجتمعات. واذا لم تجد السلطة ما يحدها هيمنت وطغت واستبدّت. وازاء ظاهرة السلطة الشاملة، وجب ايجاد شمولية أخرى هي الحقوق. تأخذ هذه الشمولية اشكالاً متعددة ومختلفة لكنها تعين دائماً للسلطة حدودها.
لحقوق الانسان تاريخ. وما من حقوق شاملة في كل مكان وزمان. تقتصر الشمولية على وجود الحقوق.
س- هل العقل مصدر هذه الحقوق؟
ج-بل هي الارادة.
هل لاحظت غياب مفهوم الارادة في الفكر المعاصر؟ يتحدثون اليوم عن الرغبة وعن العقل لكن مفهوم الارادة غائب كلياً. وتقودني دراساتي لاجهزة السلطة منذ سنين الى رد الاعتبار لهذا المفهوم.
لا ريب أن الرغبات توظف في الارادة. ولا ريب أن المخططات العقلانية توظف فيها أيضاً. لكن ما يميز الارادة هو عنصر القرار. الارادة هي التي تتخطى حسابات المصالح وطغيان الموت.
الارادة هي ما يعين للذات موقعها الخاص. هي ما يقول: افضل أن اموت أو افضل ان اصبح عبداً أو اريد أن اعرف...
س- ما هو الفرق بين الذات والارادة؟
ج- الارادة هي الفعل الخالص للذات، والذات هي ما يحدده ويحتمه فعل الارادة. إن المفهومين مرتبطان.
س- اوليس مفهوم الارادة هذا مفهوماً مثالياًَ وشبيهاً بمفهوم الانسان الذي عالجته دراستك؟
ج- ان سبب نقدي لمفهوم الانسان وللمذاهب الانسانية السائدة في الخمسينات والستينات هو الشمولية التي اعطيت لهذا المفهوم: ثمة طبيعة انسانية وجوهر انساني وعلينا باسم هذا الجوهر وباسم هذه الشمولية أن نقوم بالثورة وان نؤمم الصناعة وان نقضي على الاستغلال وان ننتسب الى الحزب الشيوعي ...
كانت هذه الشمولية تتيح العديد من الاشياء وتفترض بسذاجة، نوعاً من الاستمرارية التي تتخطى التاريخ. ولم يكن هذا المفهوم مقبولاً من وجهة النظر العلمية أو من جهة النظر السياسية.
أما مفهوم الارادة كما حددته فلا يفترض هذه الشمولية.
إن كلامي عن الارادة يقربني جداً من سارتر وتصوره للحرية ومن فيخته، فسارتر فيختوي وليس هيغليا. لكنه طبعاً لا يقودني الى نظرة سارتر "الانسانية".
دور المثقف:
س- ما هو في رأيك دور المثقف؟
ج- يعاب عليّ أنني، اذ افكك بنى السلطة، لا اعرض بديلاً. انني اظهر ما هي البنى القمعية في السجن، ولكن لا اقول كيف يجب أن ينظم السجن. انني اظهر باي ممارسات ترتبط فكرة المرض النفسي، وكيف تم تصنيف الامراض النفسية، ولكن لا اقول كيف يجب أن تعالج الامراض النفسية...
انا لا اطرح سياسة بديلة لان هذا العمل ليس عملي. فليس على المثقف أن يتنبأ ويشرع ويسنّ القانين. إن دوره في رايي هو الآتي: اظهار انه بامكاننا دائماً أن نثور لنغير الاوضاع المفروضة علينا. وان اسبابا تدعو دائماً وابداً الى الانتفاضة.
إن هدفي، وهو أحد الادوار التي يمكن للمثقف أن يقوم بها، بل يجب أن يقوم بها، زيادة الفرص التي تتيح الانتفاضة على الواقع وليس ضروريا ان تأخذ الانتفاضة شكل الثورة الايرانية اي نزول ملايين الناس الى الشارع. يمكن أن نثور على نمط من انماط العلاقات العائلية والجنسية، وعلى اسلوب من اساليب التعليم والاعلام...
وعلى الناس أن يخترعوا، افراداً وشعوباً، في الوقت نفسه، ما عليه سيثورون، والنظم التي سيشيدونها على رماد البنى السابقة.
وليس مستحباً ولا ممكنا ان يوجد مجتمع بلا انتفاضات.
س- في سياق كلامك على ايران، لفتت انتباهي بعض العبارات في وصفك للانتفاضة منها: "افتتان"، "نشوة"، "جمال"، "دراماتيكية"، "مسرح"، "مأساة اغريقية"... أولا يخبىء المفكر الصارم فوكو فنانا معاصراً لفرنسيس باكون وستانلي كوبريك؟
ج- انني اشكرك على هذا المديح وأود أن اضيف الى هذا الانطباع انني لست إنسانا باردا وجافا وجامداً لا يدرس سوى البنى السلطوية. يجب ألا نخلط بين الباحث وموضوع بحثه. فإنني عندما أفكك آلة السلطة وادرس انماط ترابطها وتوزعها، فلا يعني هذا أنني مرتبط عاطفياً بها. إن كتابي عن الجنون نص غنائي. وهذا أيضا موقفي من المجرم والجانح.

النهار العربي والدولي
الاثنين 20 – الاحد 26آب/أغسطس 1979