Monday 12 May 2014

جبران تويني والأحرار المصوّرة (1926 – 1927)




يحار المرء عندما تقع بين يديه مجموعة الأحرار المصوّرة[1] هل هو أمام تراث سياسي وأدبي أم هو أمام إنجاز معاصر منسوب إلى الماضي. وكأنه في زمالة مع قراء بورغيس الذين غالباً ما يتساءلون إذا كان الكتاب أو المؤلفات التي يتناولها الأديب الأرجنتيني بالحديث خرجت من مجاهل المكتبات أم من المخيلة. والسؤال هنا: ما الحدّ الفاصل بين فعل الأب والابن؟ فلولا غسان تويني وإرادة إحياء تراث والده (الذي هو أيضاً تراث الصحافة اللبنانية)، وربما لولا مصادفة صدور العدد الأول من الأسبوعية مع تاريخ ولادته، لما رأت الأحرار المصوّرة (19261927) النور مجدداً، ولما جازفت "دار النهار" بإعادة نشرها بنصها الكامل وصورتها الأصلية، باذلة في سبيل ذلك، جهداً ملحوظاً. فالمبدأ الهيغلي: "في نمو الطفل موتُ الوالدين" ما زال صالحاً في المطلق، وفي رواية الابن أن إصراره الشخصي[2] على ذهاب والده المريض إلى التشيلي لكسب صوتها إلى جانب مؤيدي القضية العربية في الأمم المتحدة كان السبب المباشر لوفاته (1947). لكن "نمو" مؤسسات النهار هو، في المقابل،  الحجر الأساسي في إبقاء تراث جبران التويني حياً، لا بل في إعادته إلى الحياة.
لكن الإعجاب بالإنجاز الطباعي يخفت شيئاً فشيئاً مع تصفُّح القارىء لأعداد الصحيفة. فإصدار هذه الأخيرة ترافق مع العام 1926، أحد أهم الأعوام في تاريخ البلاد وأكثرها مصيرية وغنى بالأحداث. بلاد الشام الواقعة تحت الانتداب الفرنسي مقسّمة إلى دويلات عدة فُرضت على معظمها، في ذلك العام، إنتخاباتٌ قاطعها الناخبون. أعمال "الثوار" و"العصاة" و"العصابات" تتداخل وتنتشر وتُقمع، فيما يحاكم قادة هذه الحركات فيُنفى بعضهم وينفّذ حكم الإعدام بالبعض الآخر، وسط غلي
ان بعض المناطق (حاصبيا، البقاع الغربي، الضنيّة، الشوف...) وانتشار عمليات الخطف والسطو واقتلاع خطوط السكك الحديدية وإحراق دور الحكومة (بعلبك)... واندلاع  ثورة جبل العرب ودخول الجيش الفرنسي إلى السويداء لإنهاء الثورة. تواجِهُ المشاورات حول الدستور ، بداية، مقاطعة كبيرة تتقلّص تدريجاً مع دخول الطائفية على الخط، فتقتصر هذه المقاطعة على بعض الطوائف والنقابات (منها نقابة الصحافة). إقرار الدستور اللبناني وانتخاب أول رئيس للجمهورية ومثول أول حكومة أمام مجلس النواب. كما وتدنّي سعر صرف الليرة السورية عبر خط متعرّج، يبدّد أموال الناس ومدخراتهم...
هذا  ولم يقتصر الغليان على لبنان وسوريا، إنما تعداهما إلى البلدان المجاورة: أعلن عبد العزيز آل سعود نفسه "ملك الحجاز وسلطان نجد" وعقد مع الإفرنسيين الاتفاق تلو الاتفاق؛ عملت الحركة الصهيونية عملا دائبا في مواجهة مقاومة عربية شديدة في فلسطين؛ أحكم موسوليني قبضته على إيطاليا؛ نشط رسل البلشفيك في الصين وحرّضوا العمال على الثورة... والمشاهد الآنفة الذكر لم تلغِ طبعاً حسن الجوار بين العمل الوطني والانتهازية السياسية ولم ترسم حدوداً فاصلة بينهما. الحفلات التي أقيمت في بيروت ذكّرت الحضور "بحكايات ألف ليلة وليلة" (العدد 14)[3]. وانتشرت حركة لبس القبعات بين الشبيبة الإسلامية في بيروت (العدد 11). وتسرّبت الموضة الغربية بقوة إلى الأوساط النسائية.

النظرة الأفقية

إزاء هذه الحوادث كلها، أول ما يدهشك في موقف الأحرار المصوّرة منها هو هذا المزيج من الصلابة والليونة المتجسِّد في النظرة الأفقية إلى المنتدب الفرنسي. فعن الأجانب الذين لا يحترمون العادات المحلية، تقول الصحيفة: "ليذكر هؤلاء الناس أنهم في بلاد الناس..." (العدد 14). وعن الموظفين الإفرنسيين، تتساءل: "هل يحسبون أنهم أولاد الست ونحن أولاد الجارية؟" (العدد 1). وعندما "تبشّر" سلطات الانتداب المواطنين بإلغاء احتكار صيد السمك وتريد، نتيجة ذلك، "تربيحـ(نا) جميلة"، يشير "أبو غسان"، وهو التوقيع الذي يذيّل به جبران التويني زاويته الأسبوعية الطويلة "على المكشوف"، إلى مصالح شركة فرانس ميديترانيه ويطالب بإزالة "بقية ضربات الديون العمومية عنّا، باعتبارنا غرفة تبريد على الأقل..." (العدد 2) وإذ يتدخَّل الفرنسيون في الريف المغربي والإنكليز في الموصل، ينحّي" ضعيف "المبادىء جانباً ويؤكد "أن الخناقة كلها على المناجم، وبالتالي على أمور اقتصادية" (العدد 3). ويكفي أن نلقي نظرة على كاريكاتوري الصفحة الأولى في العددين الثاني (وزراء مالية فرنسا بأشكالهم وأزيائهم المختلفة يبحثون عن... الفرنك) والثاني والثلاثين (ستة مفوضين في سبع سنوات: "بارك الله في هالبطن الخصيب يا ست مريانا...")[4] لنرى، بالعين المجرَّدة، "الممدّنين" (بكسر الدال) وقد أزيلت عنهم كل هالة وقدسية وتحوّلوا نتيجة ذلك إلى كائنات طريفة وغريبة. هذه النظرة الأفقية التي ينظرها الأحرار الوطنيون إلى المنتدبين هي وليدة اعتزاز ذاتي بالانتماء العربي، وإلمام صحافي بالواقع الفرنسي والفساد الضارب فيه (العدد 16: كلفة سفر قاضٍ فرنسوي؛ العدد 23: تعويضات المسيو كايلا...)، واستخدام مبادىء فرنسا وثورتها ضد ممارسات الفرنسيين في بلادنا، وأخيراً "الاعتماد على أحرار فرنسا، الذين يعرفون حقوق الشعوب" (العدد 17) مع نقد لاذع للذين يتنكّرون لهذه المبادىء عند تركهم فرنسا للمجيء إلى بلاد المشرق، فينتقلون من سحق "قوى الظلام" إلى عشق رجال الدين (العدد 4، كاريكاتور الصفحة الخامسة). "أبو غسان" يؤيد لغة رسمية واحدة في الدستور هي اللغة العربية (العدد 15)، وينادي لها بالمكانة الأولى في المدارس والجامعات (العددان 2 و5) ويرى "محاكم البداية كلها وطنية... و... محاكم الاستئناف كذلك سوى محكمة واحدة... ومحكمة التمييز مناصفة بين الوطنيين والأجانب" (العدد 16)، وهو مع لبناني لا أجنبي لرئاسة الدولة "إحتراماً لمبدأ وطني ومحافظة على كرامتي القومية" (العدد 17)، ومع حصر الوظائف الرئيسية بيد الوطنيين دون تغييب إمكانية استخدام مستشارين أجانب عند الحاجة (العدد 16). على الإنتداب أن يكون "قاصراً" على الإرشاد الفني والتدريب العلمي، لأن التلميذ لا يمكنه "عملياً" من إتقان صناعته – وصناعتنا الاستقلال – إذا لم يتمرن على هذه الصناعة" (العدد 12).





يتبين مما سبق أن نظرة الحر الوطني جبران تويني إلى أصحاب "السلطة" الفرنسيين لا يشوبها أي مركب نقص. هي نظرة الندّ للندّ، لا دونية فيها ولا استعلاء، فيها من الانتفاضة للكرامة الوطنية ومن الإزدراء "للمتفرنجين" المتنكرين لقيم أمتهم، "الحائرين" في قوميتهم، ناسين "أن الذي يحتقر أبناء جنسه، ويطعن في قومه أمام الأجنبي، يكون عرضة لاحتقار الأجنبي" (العدد 10)، أكثر مما فيها من الحقد الفانوني (نسبة إلى فرانز فانون صاحب معذبو الأرض) على المنتدب المستعمر الذي فكّك أواصر الإنسان المستعمَر (بفتح الميم). ولا ينعكس هذا الموقف في عدم رفض الانتداب كلياً وفي القبول باستخدام المستشارين الفرنسيين في الإدارات الرسمية فحسب، بل أيضاً في عدم الشعور بالدونية أمام اللغة الفرنسية: "نعتقد أننا بحاجة إلى لغة أوروبية نجاري بها العلم الحديث في حركته. وأقرب هذه اللغات إلينا هي اللغة الفرنسوية التي انتشرت مدارسها بيننا فضلاً عن كونها لغة الدولة المنتدبَة. فنحن ننظر بعين الرضى إلى تعاون اللغتين على ترقية مستوى الإدارة والقضاء في بلادنا. ولكننا نأبى كل الإباء أن تحلّ اللغة الفرنسية محل لغتنا القومية..." (العدد 10). إن عصبة الأمم عيّنت للانتداب مهمة هي "التدريب على حسن الإدارة"، ولم تطلب منه "الفتح" و"الاستعمار" و"الغزو" وهو، في رأي جبران تويني، يقوم بما لم يطلب منه ويتوانى عمّا حدّد له (العدد 3).

الحدود الأرسطية

ما المواقف السياسية التي ترتبط بهذه النظرة الأفقية إلى المنتدب؟ في خضم الأحداث التي حفل بها العامان 1926 و1927 نجد جبران تويني يرسم، في افتتاحياته الأسبوعية الطويلة، خطاً سياسياً يلتقي، دون أي إشارة منه أوتقصّد ، مع الحدود الثلاثة التي وضعها أرسطو في خاتمة كتابه في السياسة: "الاعتدال والإمكان واللياقة"[5].
الإعتدال أولاً. لا يسعى جبران تويني إلى التوفيق بين "أمة تسعى إلى استقلالها" وموظفين "أرادوا جعل الانتداب استعماراً". فموقفه واضح لا لبس فيه: "إن ما قالوه [الوطنيون في حلب] تقوله الأمة العاقلة الرشيدة" (العدد 37). لكنه يرى صعوبة الخيار في ظل موازين قوى معينة، كما يرى تناقض بعض القيم التي ينادي بها فيما بينها وفداحة الشرور التي لا مفرّ منها عند كل خيار. لذا نرى الاعتدال[6] رائد مواقفه كلها في المسألة الوطنية: "ليس من ينكر أن فرنسا تستطيع البطش بالثوّار وأن الكلمة الأخيرة ستكون لها في ميدان القتال. ولكن البلاد تصبح خراباً بين اشتداد الجيش واشتداد الثوار. فعلى هؤلاء أن يشفقوا على بلادهم وعلى ما ينتظرها من الخراب. وعلى السلطة أيضاً أن تستنفذ وسائل الحلم قبل المضي في الشدة إلى النهاية. وخير لفرنسا أن تحكم بلاداً عامرة من أن تحكمها خراباً" (العدد 8). وعندما يتطلّع إلى نهاية الثورة، يرى أن تكون "بشروط تحفظ فيها فرنسا هيبتها العسكرية وتنال البلاد أمانيها المشروعة" (العدد 15). وهو، في الجوهر، لا يرى تناقضاً بين الأطراف غير قابل للتذليل: "وعلامَ لا يتفاهم مفوض فرنسا، وهي أم الحرية، مع شعب لا يطلب سوى الحرية المعقولة، والمحافظة على صداقة فرنسا الحليفة الصدوق" (العدد 4).
ونجد نهج الاعتدال هذا في موقفه من غلاة اللبنانيين الذين يريدون الانفصال التام عن سوريا، وغلاة السوريين الذين يريدون ضمّ لبنان إلى سوريا: "ولقد أفرط الغلاة من الجانبين في التشبث، هذا بالوحدة وذاك بالانفصال... وأنه لخير للقضية السورية اللبنانية أن يكون التفاهم رائد العلاقات بدلاً من هذا التناحر الذي كثيراً ما يشغل الأذهان عن أمور كثيرة الأهمية والخطر... إن البلاد ذات عصب واحد بتجارتها وعلاقاتها الاقتصادية والزراعية والصناعية. فمن مصلحتها أن تنظّم هذه العلاقات بروح التعاون والإخلاص، مع احتفاظ كل منطقة منها بحريتها الداخلية" (العدد 16). وما الدعوة إلى "اتحاد سوري لبناني" إلا محاولة للتوفيق بين الأواصر القوية واستقلال الكيانات الذاتي.
ونرى اعتدال "أبو غسان" في المواقف الداخلية كافة من إلغاء الطائفية السياسية إلى إجراء الانتخابات البلدية مروراً بقانون الإيجارات. تويني ضد الطائفية في الدستور والإدارة لكن صعوبات إلغائها لا تخفى عليه كما سنرى لاحقاً.
أما بالنسبة لقانون الإيجار التي كان يومها يعرف "بقانون الأجور" (العدد 14)، فتويني يسعى إلى حلّ سليم يُنصف المالك والمستأجر ويرى في القانون الاستثنائي الجديد الذي أقرّه مجلس النواب "حلا" أعرج "لأنه كان لمصلحة مستأجري المنازل وغبن أصحاب الأملاك ومستأجري المخازن". لكن موقف صاحب الأحرار ما لبث أن تطوّر لمصلحة المستأجرين لأنه رأى في ذلك مصلحة وطنية: "يقول المالك إني حرّ في ملكي أتصرّف فيه كيفما أشاء. وهو قول وجيه جداً لولا ان الملك في أوقات الأزمات يجب أن يخضع لناموس احتياجات الأمة. فلا يكون الفريق الأكبر من الشعب، وهم المستأجرون، تحت رحمة الفريق القليل، وهم الملّاكون" (العدد 15). أما موقفه من إجراء الانتخابات البلدية فهو الآتي: "إن القيام بالانتخابات في هذه الظروف[7] شرّ، وتأجيلها شرّ أيضاً. ولكن شرّ التأجيل أهون من شرّ الانتخاب لذلك نقول باختياره ولو أنه مخالف للحقوق التمثيلية التي نطالب بها على الدوام" (العدد 18). وأخيراً، وفي مواجهة مؤيدي الإدغام القضائي الذين يتّهمونه "بالكزينوفوبية" (أي بمعاداة كل ما هو أجنبي) يشير تويني إلى أن الانصاف هو، كما رأى ذلك المعلم الأول، في الحلول الوسط: "لو أنصفتم لوجدتم حلاً وسطاً يستطاع به تعاون اللغتين على الإصلاح المطلوب" (العدد 16).
والاعتدالُ بين المواقف المتناقضة مرتبطٌ ارتباطاً شديداً بما يمكن تحقيقه في مرحلة معينة ووسط موازين قوى معينة. فالاعتدال يصدر عن الإمكان والإمكان يؤدي إلى الإعتدال. فالمطالب التي رفعها الثوار بتوقيع "الشعب الدرزي" تسد الطريق إلى التفاهم بما فيها من المطالب المستعصية التنفيذ. وقد قال المثل: "إذا أردت أن تُطاع فسل ما يستطاع" (العدد 10). "المرونة"[8] صفة تلازم كل سياسة واقعية، وعند كل خطوة يجب التوقف عند ما فيها من حسنات: فبيان حكومة الداماد في دمشق، رغم رفض العديد من الوطنيين له، يحوى "مزايا لا يستهان بها" (العدد 20). والأحرار المصوّرة تخوض المعركة تلو المعركة "فإن ما لا يدرك كله لا يترك جلّه، وقد جاء في الأمثال "خذ وطالب" (العدد 29)[9]. فبعد أن خاضت الصحيفة معركة وطنية الحاكم – أي كونه لبنانياً - وكسبتها بإقرار ذلك في الدستور وبانتخاب شارل دباس رئيساً للجمهورية، بدأت معركة أخرى أكثر جذرية. ونسمح لأنفسنا هنا بإيراد نص طويل لما فيه من عِبَر للحاضر والمستقبل ولما فيه من صواب في الإشارة إلى الأبعاد الحقيقية لمشاكل البلاد:
 "وأخيراً صار عندنا جمهورية... وأصبح لبنان جمهورية على مثال الجمهوريات الكبرى في العالم. فأنا أغتبط بالحكومة الوطنية لأني أرى فيها مجلى السيادة القومية، وهي مظهر العزّة والكرامة. ولكنني أتساءل هل توجد في هذه الجمهورية سيادة قومية؟ إذا نظرنا إلى الكيفية التي وضع فيها الدستور، وإلى الشكل الذي جرى فيه تعيين الشيوخ، وتمّ انتخاب رئيس الجمهورية، لتبيّن لنا أن هذه الحكومة الوطنية التي نتغنى بها ليست سوى نسخة من إرادة سوانا. ولو أنصفنا القوم، أو بالأحرى لو أنصفنا أنفسنا، لعرفنا كيف نقيم جمهوريتنا بعيداً عن المؤثّرات. ولكن هو الضعف الناتج عن تربيتنا، وكما تكونون يولى عليكم" (العدد 21).
وأخيراً لا آخراً، تحكم اللياقة أدب جبران تويني الصحافي رغم السخرية اللاذعة التي تطبع الأحرار المصوّرة بطابعها، ورغم رأي ماري ينّي في أن بعض النكات "لا تتفق ورصانة الكاتب" و"رزانته" و"أدبه" (العدد 3). ربما لا نستسيغ اليوم مجمل الصور الدائرة في فلك "الحلاّق" من "جرة موسى" إلى "حلاقة على الناشف" مروراً "بفقاقيع الصابون" و"اللحى الطويلة"... لكن هذه الاستعارات أقرب إلى العفوية منها إلى الابتذال. وإذا انتقد جبران تويني البطريرك الماروني يذيّل نقده بالعبارة الآتية: "تسرّع غبطته... نستميحه عذراً في إبداء هذه الملاحظة" (العدد 3). وإذا تكلم عن المفوّض السامي دي جوفنيل (الأعداد 1، 3، 11...) وعن الحاكم كايلا[10] عند مغادرته البلاد (العدد 20)، يكيل لهما المديح محملاً الظروف والمستشارين والمسؤولين السابقين القسم الأكبر من مسؤولية الأعمال الشائنة التي صدرت عن سلطة الانتداب. وليس في ذلك أسلوب مجاملة للمحافظة على الصحيفة فحسب، بل أيضاً أدب ولياقة رفعا مستوى الصحيفة.
وعندما أصبح شارل دباس رئيساً للجمهورية شهد له الكاتب "بسعة الاطلاع و... جانب عظيم من التجرّد" دون أن يغفل التذكير بما يأتي: "ولو أنه استطاع الحؤول دون الإدغام القضائي وما تلاه من أسباب الفوضى في نظامنا العدلي لما حملنا عليه حملاتنا المعروفة" (العدد 20).

الثابتان الأساسيان

تشكّل حدود أرسطو الثلاثة (الاعتدال والإمكان واللياقة) نهج عمل صاحب الأحرار المصوّرة في التعامل مع المستجدات التاريخية. لكن هذه الحدود لا تلغي الثوابت التي يعمل هذا النهج المرن في خدمتها، بل على العكس من ذلك، تظهرها في تألقها. والثابتان الأساسيان اللذان يشكّلان، في رأينا، ركيزتي إيمان تويني في هذه الفترة هما اللغة العربية من جهة، وتجسيد فكرة الدولة وتوابعها من جهة ثانية.
اللغة العربية هي الركيزة الدائمة التي تعود إليها باستمرار كل أعداد الصحيفة تقريباً. والأحرار المصوّرة تدافع عنها، كما قلنا سابقاً في القضاء والمدرسة والجامعة والدواوين الرسمية وقانون البلاد الأساسي. اللغة العربية "عامل كبير في الاحتفاظ بكياننا القومي" (العدد 10). "إننا نعتبر لغتنا أساس قوميتنا ودعامة استقلالنا. فكل حركة تقضي على اللغة العربية أو تضعف حيويتها نقاومها بكل الوسائل المشروعة" (العدد 15). اللسان هو العامل البيّن في تحديد هوية الناس: المسيو ديبان مثلاً يحقد على المحامين الذين أجبر على الاعتذار منهم لأنهم "من طينة غير طينته... هم عرب وهو أوروبي" (العدد 22). وعندما طعنت مجلة لاسيري (الصادرة بالفرنسية لصاحبها جورج فيسييGeorges Vayssié ) باللغة العربية مسمية إياها "لغة القفار"، أجابها "أبو غسان": "أما نحن فنفتخر بهذه اللغة ونحتفظ بها بكل قوانا لأنها تراثنا من الآباء والأجداد. وكل ما نرجوه من "لاسيري" أن تحترم لغتنا وأن لا تبلغ بها السماجة والصفاقة إلى هذه الدرجة من إهانة أمة في لغتها وشعورها. إن لبنان عربي، وسيظل عربياً، مهما حاولوا أن يفرنجوه. وستظل لغة القفار لغته الشعبية..." (العدد 3). وفي عدائها لسلوك الأرمن، تعطي الصحيفة دوراً كبيراً لمسألة اللغة مظهرة حرصاً عظيماً على صفاء العربية ونقاوتها: "فلا يدرسون لغتنا ولا يهتمون بآدابنا، بل هم متعصِّبون للغتهم الأرمنية تعصباً شديداً، ووجودهم وحده بيننا ينذر بأن تتغلب اللغة الأعجمية على لغة البلاد فتصبح لغتنا رطانة وخليطاً من اللغات الأجنبية كما هي الحال في مالطة وبلاد المغرب في تونس والجزائر" (العدد 48).
وإذا كانت أولى ركائز الإيمان واقعاً صلباً مغروساً في حياة الشعب وصعب الاقتلاع، فإن الركيزة الثانية هي بالمقابل فكرة طوباوية مطلوب تجسيدها، فكرة الدولة الحديثة مع ما يرتبط بها من حرية ومساواة وسيادة القانون وتجسيد السيادة القومية[11]. الحرية هي مطلب الصحافي الأول وهو الشديد الحساسية لكل الحواجز التي تعترضها، ولأنواع الرقابة القانونية والاستثنائية التي تهدف إلى تكبيل أفواه الصحافيين (العددان 8 و17). أما المساواة وسيادة القانون، فأفضل تعبير عن الكفاح في سبيلهما بيّن في الحجم المعطى في الصحيفة لمسألة القضاء، وفي الحرب المبدئية المعلنة على أشكال الطائفية كافة.
يكاد لا يخلو عدد من أعداد الأحرار المصوّرة من الإشارة إلى القضاء وأهميته. وفي زوايا الصحيفة المخصصة للنوادر، تمثّل نوادر المحامين مساحة لا يستهان بها. والقضاء، في هذه المرحلة (19261927)، يقع وسط معركة سياسية يخوضها الوطنيون بشراسة ضد الإدغام القضائي وضد فَرْنَسة المحاكم. لكن لا يغيب أبداً عن جبران تويني، وهو في طليعة المعركة للحفاظ على العربية في المحاكم، أن القضاء والقيم التي يجسِّدها من "عدل وإنصاف" (العدد 18) مستقلة عن المسألة الوطنية، لا بل أسمى منها. في العدد الأول من الأسبوعية، يفتح تويني النار على ممارسات بعض القضاة الوطنيين: "فإننا بينما ندافع عن قضائنا الوطني ونحمل على الإدغام حملات عنيفة جداً، يتصرّف بعض رجال قضائنا تصرّفات غير مشكورة تؤيد حجة خصومنا وتعطيهم سلاحاً للنيل من قضاتنا الوطنيين". وبعد أن يروي الحادثة موضوع الشكوى ويشير إلى الشبهات التي تحوم حول بعض القضاة، يقول: "أن حادثاً كهذا يفسد مبدأ ويقتل شعباً" (العدد 1). وفي مقاله العنيف ضد محاكمة وطنيي حلب أمام القضاء المختلط الذي أوجد أصلاً لمحاكمة الأجانب، لا يفوت "أبي غسان" – بعد أن أطلق صرخته: "اللهم اننا نكاد نطلّق عقولنا إزاء هذه المتناقضات" (العدد 3) – ذكر استقلالية السلطة الثالثة وسموها: "أن لا أجادل في شدّة الأحكام، فقد قال القضاء كلمته..." وفي "جرة موس" ضد معتقل أرواد "الذي" حشر "فيه" الأحرار السوريون"، يكتب "حلاق": "إن هذا السجن محرّم في البلاد الدستورية المستقلة، إلا عن طريق المحاكم. لكننا شعب غير دستوري، غير مستقل... فللسلطة الإدارية العسكرية أن تتصرف بمقدراتنا كما تشاء إلى أن يصبح عندنا دستور، ينظِّم في البلاد طرق العقاب والثواب..." (العدد 6).
المطلب الأساسي الذي يتكرَّر في الأعداد الأولى من الأسبوعية هو مطلب "تحديد الإنتداب" أو "تعريفه" من قِبَلْ عصبة الأمم أو من قِبَلْ "علماء القانون الدولي" (العدد 12) "لتعرف البلاد حقوقها والانتداب حدوده" (العدد 8). وما تكاد لجنة الانتدابات في روما تضع تقريراً حتى يرى تويني في إحدى فقراته التي تمنع على "رجال الدولة المنتدَبة" التدخُّل في "شؤون الحكومات الأهلية الداخلية" تعريفاً للانتداب كفيلاً بالقضاء على كل سوء تفاهم.
ولا يقتصر اهتمام تويني الحقوقي على مسألتي تعريف القانون الدولي العام للانتداب وموقع السلطة القضائية في الدستور، بل يتعدى ذلك ليدخل في أمر استقلالية القضاء عن كل نفوذ خارجي: "لا ندري ولا المنجّم يدري، كيف يستطيع القضاة أن ينصرفوا تمام الانصراف إلى أعمالهم القضائية، وهم كل يوم مهددون بالتشكيلات والتنسيقات وما شاكل" (العدد 9). كما لا تمنع ثقافة تويني القانونية صاحبها من وصف القضاء في حاله الواقعية: "وصل إلى درجة مؤسفة من الارتباك والفوضى... ومع ذلك نطلب من القضاء أن يكون مثال الكمال" (العدد 18). وهكذا من الشرعية الدولية إلى عمل المحاكم اليومي مروراً بمسألة صلاحيات القضاء في الدستور، تبين نظرةٌ مترابطة ومتكاملة إلى القانون وموقعه في الدولة المعاصرة.
أما موقف الأحرار المصوّرة الرافض للطائفية[12]، فيعود إلى تناقض هذه الأخيرة مع فكرة الدولة والديموقراطية والقانون من جهة، وإلى تعارضها مع فكرة الانتماء الوطني والقومي من جهة ثانية. يرفض جبران تويني رفضاً قاطعاً إدخال الطائفية إلى صلب الدستور. "أن وضع الطائفية في الدستور إهانة للدستور نفسه. ولا نعتقد أن الديموقراطية تتفق مع التقسيم الطائفي" (العدد 19). "لقد كنا نود أن لا يتعرّض الدستور لقضية الطائفية وأن يبقى بعيداً عنها حتى يضع للبلاد أساساً قومياً تصهر فيه الطوائف في بوتقة الوطن" (العدد 13).
وعندما اجتمع رؤساء الطوائف الروحية في بكركي، عارضت الصحيفة هكذا اجتماع وكتبت: "القضية اللبنانية قضية وطنية قومية سياسية وليست قضية روحية" (العدد 8)، ثم استشهدت بقول الإنجيل: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وموقف الأسبوعية من طائفية الوظيفة هو الآتي: "إن تقسيم الوظائف على الطوائف يوطد أساس الطائفية ويقضي بالفشل على كل سعي يسعاه المفكّرون إلى تقوية الروح القومية وقتل الفوارق الطائفية في الشؤون العامة" (العدد 16). أخيراً لا ينسى "أبو غسان" الإشارة إلى أن الطائفية حجة أجنبية لاستمرار الانتداب والاستعمار: "الداعون إلى الطائفية يعطون حجة علينا للأجنبي بأننا لا نفقه للوطنيين ولا للقومية معنى. وأننا سنظل في انقساماتنا الطائفية مشتغلين" (العدد 20).
لكن موقف تويني المبدئي من الطائفية ومعارضته الشديدة لها لخروجها على فكرتي الدولة والوطن لا يجعلانه يغفل موقعها على خريطة الواقع وصعوبة إزالتها منها. فهو، إلى تشديده أن الطائفية ظرفية وأن الاحتقان الحالي لن يستمر، يلاحظ أنه أمام إشكال منطقي: فهو، من جهة، يطلب من اللجنة المكلفة بإعداد الدستور "أن تتقيد بآراء الأمة"، وهو، من جهة ثانية، يلاحظ أن غالبية فعاليات الأمّة طالبت بتكريس الطائفية في الدستور. "وإن قيل أنه كان يجب على اللجنة أن تضرب عرض الحائط بآراء الأمة، فهل نلومها إذا نزلت عند ما طلبوه؟" (العدد 13). الطائفية مطلب الأكثرية لأنها "في المدرسة والمنزل والسوق" (العددان 13 و16)، ولا تكون إزالتها "من الحكومة ومن السياسة" "بالألفاظ"، بل بمحوها من المواقع الآنفة الذكر. ونرى هنا أيضاً توفيقية جبران تويني واعتداله. فهو، على صعيد المبدأ، مع الإنتماء الوطني والقومي الخالص وضدّ ذكر الطائفية في الدستور، وهو، على صعيد الواقع، مع إبقائها عرفاً: "ولتترك (اللجنة) التوزيع الطائفي للعرف والاتفاق. فيظل الدستور سليماً من هذه الشائبة، ويستطاع العدول عن الطائفية متى هدأت ثورة الأعصاب المتوترة..." (العدد 16).

"أرثوذكسي"

بين لغة الضاد والناطقين بها[13] من جهة، والدولة التي تتجسّد في دستور ورئيس ومجالس وإدارة وقضاء وقوانين وأعراف من جهة ثانية، تقوم الهوية الوطنية والقومية التي ترى في الدولة تكريساً لها ولسيادتها على أرضها. لكن ما لون هذه الهوية؟ أهي لبنانية أم سورية أو عربية؟ يقتصر كلامنا هنا عن مواقف جبران تويني عبر الأحرار المصوّرة[14] ونرى الصحافي يتحدث، دون أية عقدة ذنب، عن "القضية اللبنانية" (العدد 8) وعن "القضية العربية" (العدد 11) مؤكداً أن لبنان عربي ولا يمكن نزع هذه الصفة عنه (العدد 3). وهو في صحيفته الصادرة في بيروت يكاد يساوي، في المكانة والمكان، بين لبنان و"دول" سوريا يومذاك، مبدياً حذراً كبيراً من أحداث نجد والحجاز ومن إتفاقات الفرنسيين مع عبد العزيز بن سعود (العددان 4 و6)، متخوفاً من هجوم البدو على العمران ما لم تردعهم قوة عسكرية عن ذلك (العدد 2).
ومن الواضح أن مودة "أبي غسان" "للغة القفار" تفوق كثيراً مودته لأهلها، وأن كلامه عن العرب لا يشمل كل من نطق بالضاد. وكما رأينا سابقاً، يرفض تويني مواقف غلاة اللبنانيين والسوريين داعياً "لوضع حدّ لهذا النزاع القائم بين نظريتين ليس من الصعب التوفيق بينهما، إذا حسنت النيَّات من الفريقين" (العدد 9). وما يبين لنا هو أن جبران تويني لا يرى تعارضاً بين الانتماء اللبناني والعربي (أو السوري)، وأنه بحكم اعتداله وسعيه نحو الممكن وإلمامه بالوقائع المعقَّدة واعتماده فكرة الدولة المستقلة ذات السيادة كأساس ثابت في فكره، يجنح إلى التعامل مع الكيان اللبناني كأمر واقع، داعياً إلى التنسيق والتعاون مع سوريا. من هنا فكرة الاتحاد السوري اللبناني الذي يبقي على "الحرية الداخلية" لكل كيان.
لماذا لم يحسم جبران تويني مسألة طبيعة الانتماء القومي نظرياً ولماذا عمد إلى تجاوزها عملياً عبر تأييد الكيان اللبناني دون التنكُّر للعروبة وللأواصر القوية بين لبنان والداخل مع رفض الطائفية؟ قد يكون الجواب عن هذا السؤال (أو جزء منه) في انتماء الصحافي البنّاء الحرّ الطموح ابن بيروت (وكل هذه المكوّنات عوامل مؤثرة) إلى طائفة منتشرة في كل أرجاء لبنان وسوريا وهي طائفة الروم الأرثوذكس. "مسكينة هذه الطائفة الأرثوذكسية في موقعها إزاء الدولة المنتدبة، وإزاء الحكومة اللبنانية. فلا هي مع الذين آمنوا، ولا هي مع الذين كفروا. وإن مالت الدولة مع المسيحيين، لم يعتبروها مع المسيحيين... وإن مالت إلى المسلمين لم يعتبروها مع المسلمين" (العدد 6). لكن هذه الطائفة ذات مكانة رفيعة مهما صغر الوطن أو كبر: "إن الطائفة الأرثوذكسية كانت في الدولة العثمانية الطائفة الثانية بعد الطائفة الإسلامية. وكل الإمتيازات التي كانت لرؤساء الدين المسيحيين إنما كانت لها وما نال "سواها" شيئاً في الإمتيازات إلا بواسطتها. أما في لبنان الصغير فقد كانت سياسته في يدها. ولا أخال أحداً نسي اسكندر بك التويني وناصيف بك الريّس وما كان لهما من النفوذ السياسي، أضف إلى ذلك تأثير آل العازار وسواهم على سياسة لبنان" (العدد 10).
ينتمي صاحب الأحرار المصوّرة إلى طائفة أكبر من أن تكون هامشية نظراً لعديدها وانتشارها في أرجاء البلاد كافة ومكانتها التاريخية ومواقعها المدينية والاقتصادية والفكرية المتقدمة. لكن هذه الطائفة، لأسباب شتى، لا تشكِّل في العشرينات "كتلة تاريخية" ذات مشروع كياني محدَّد. لذا يرى أبناؤها في الدولة الحديثة المستقلة أفق عملهم دون أن يجمعوا على نظرة كيانية واحدة[15] ودون أن يروا حسم مسألة هوية الكيان الذي إليه ينتمون[16].
وقد نجد في السطور الآتية التي وقّعها "أرثوذكسي" أجمل صورة يريدها الأرثوذكس عن أنفسهم: "… إن الأرثوذكس لا يطلبون الوظائف عن طريق مذهبهم، بل عن طريق كفاءتهم. وهم في غنى عن الوظيفة إذا كانت لا تأتي إلا عن طريق الدين. وجلّ ما أريده هو أن يفهم المتعصِّبون أننا مهضومو الحقوق. وأننا مع ذلك لا نبالي، لا عن عجز ولكن عن عدم اهتمام بأمثال هذه الصغائر." (العدد 10)

نيسان 1995





[1]  صدر هذا المقال تحت عنوان " والأحرار المصوّرة (19261927) أو الانتداب الفرنسي من حيث يقف الأحرار الوطنيون " في ملحق النهار، نيسان 1995.  
[2] كان غسان تويني يعمل يومها في عداد الوفد اللبناني إلى الأمم المتحدة الذي يرأسه  كميل شمعون.
[3]  تشير الأرقام إلى أعداد الأسبوعية.
[4]  عطّلت "الأحرار المصوّرة" بسبب هذا الرسم الكاريكاتوري واعتبرت السلطات أن الجنرال غورو رُسِم "بشكل غير محترم" (العدد 33).
[5]  "فجلي إذاً" أن الحدود الثلاثة التي يجب أن توضع للتربية هي هذه: الاعتدال والإمكان واللياقة" (في السياسة، 1342 ب 30، ترجمة أوغسطينس بربارة).
  [6] إشتراكُ "المتطرفين" في الحكومة هو من مستلزمات هذا "الاعتدال" (العدد 41).

[7]  نظراً "للجو المكهرب الذي يخيّم في بعض جهات الجبل".

[8] "ولكن متى كانت السياسة خالية من المرونة؟" العدد (20).

[9]   يدعم تويني سياسة "لاعتدال" و"الإمكان" بالحجة الآتية: "فإن الثورة إذا طال أمدها وهي على ما هي عليه أصبح عدد المقاتلين الوطنيين فيها قليلاً، وزاد عدد السلابين الذين لا يفهمون من الثورة سوى إخلال الأمن والاعتداء على السابلة، وسلب الناس، كما حدث في كثير من المواقف حتى الآن" (العدد 29).

 [10] لكن تويني ينفجر غضباً عندما تصله أخبار "الستة آلاف ليرة مزدوجة" المصروفة للحاكم عند مغادرته البلاد والتي ليس لها أي تبرير قانوني (العدد 23).
[11]  في العدد الأخير من أعداد الأسبوعية، يرى كاتب زاوية "على المكشوف" أن حكومة الداماد الدمشقية أصبحت "خالية من كل مظهر من مظاهر سيادة الأمة" (العدد 50).
[12]  لا يقل رفض تويني للعشائرية عن رفضه للطائفية. "وجمهورية الوفاق هي الجمهورية اللبنانية الغريبة في شكلها ودستورها وموظفيها. فكل موظف كبير فيها لا يهنأ له عيش إلا بعد أن يأتي بأفراد عيلته بأجمعها وينثرهم في مناصب الحكومة حيث يجد منصباً فارغاً" (العدد 50).

[13]  لا يقود تشديد تويني على اللغة العربية الصحافي  إلى إغفال أهمية النسب العربي والأخلاق العربية. ففي "ورقة دبابيس" عن وزارة الشيخ بشارة الخوري الأولى يكتب: "وإنها لوزارة من صميم العرب... رغماً من كونها في لبنان الذي يريد بعض السخفاء أن يجعلوه فيـ... نيـ... قياً". فالأمير خالد الشهابي عربي من بني قريش. والسيد أحمد الحسيني "يتصل نسبه بسلالة الرسول" والياس فياض وشكري قرداحي من بني غسان وسليم تلحوق من بني لخم وبشارة الخوري، مثل سائر مشايخ الجبل، ينتسب إلى العرب. أما جورج ثابت "فنحن نرجِّح أنه عربي الأصل. وهو إن لم يكن عربياً بنسبه فهو عربي بشممه وإبائه وكرمه وسخائه" (العدد 47).
[14] حول المواقف السابقة لهذا التاريخ، راجع جان داية: جبران تويني وعصر النهضة (19051924) دار النهار للنشر 1994.

[15]  "فإنّي والحمد لله، مستقل استقلالاً تاماً ناجزاً، لا حماية ولا وصاية ولا انتداب" (العدد 4).

[16] نرى جبران تويني – في زمن طغى عليه الكلام عن عدد الكيانات السورية (العدد 49، كاريكاتور الصفحة الأولى) – لا يأتي على ذكر هذه المسألة في لائحة "آمال البلاد": "فهي تنحصر في طلب المحافظة على كيان هذه البقعة الشرقية ودعم استقلالها واستئصال جرثومة الحكم المباشر فيها، وإطلاق يد أبنائها في شؤونهم الداخلية فتقف الدولة المنتدبة موقف المرشد لا موقف المحتكر المستبد" (العدد 33).

Saturday 3 May 2014

MAX WEBER ET "LA DOMINATION"












Max Weber: La Domination, traduit de l’allemand par Isabelle Kalinowski, édition critique française établie par Yves Sintomer, La Découverte, 2013, 428 pp.

          L’œuvre de Max Weber (1864-1920) a rayonné sur la pensée française, sociologique et politique, avant même sa traduction, par le biais de professeurs célèbres, éminemment Raymond Aron et Julien Freund. Quand vint le temps des publications en français, elles semblèrent, en dépit de leur importance, fragmentaires et anarchiques surtout que l’établissement des textes allemands était une compilation posthume pas toujours fiable. Ce que le présent ouvrage nous met entre les mains, c’est un chapitre capital d’Économie et société non disponible dans ses parties les plus importantes en français et ce sur la base de l’édition critique de référence. Rédigé dans les années qui ont précédé la première guerre mondiale (1911-1914),  il forme une pièce maîtresse de la sociologie politique de l’auteur. Quant à l’édition critique du présent volume, nous ne pouvons qu’en dire du plus grand bien tant elle permet de situer le texte, de l’éclairer voire de signaler certaines de ses erreurs.
          Entrer dans les pages de La domination ne manque certes pas de retrouver des concepts wébériens connus pour avoir nourri bien des débats et servi moult analyses : l’idéal-type, la science compréhensive, le pouvoir charismatique, la bureaucratie, l’action rationnelle, l’éthique protestante dans son rapport à  l’esprit du capitalisme, le désenchantement du monde dépouillé de sa magie… Mais à nul moment l’attrait de l’ouvrage ne baisse tant le champ de l’enquête est vaste, les institutions passées en revue diverses, les rapprochements originaux, les questions radicales, l’effort de penser exigeant. L’époustouflante érudition est apprivoisée par une grille conceptuelle aussi rigoureuse que novatrice.
          Au centre du livre bien entendu ce concept politique de domination (Herrschaft) qui tend à remplacer le concept économique marxiste d’exploitation. On pourrait y voir une réminiscence de Hegel, mais le nom de ce dernier ne figure pas dans l’opus comme l’atteste l’index. Pour Weber, dans  «tous les domaines de l’agir communautaire sans exception » on perçoit l’influence de la domination. Il s’agit donc de construire le concept  avant de répertorier ses modes et configurations.
          Dans la domination, la puissance (Macht) pour reprendre le terme de Nietzsche et signaler le lien des deux penseurs, est définie, dans son sens le plus général, comme  la possibilité pour une personne de contraindre d’autres personnes « à infléchir leur comportement en fonction de sa propre volonté ». L’angle d’attaque de Weber est plus pointu: il entend, par domination, « le fait qu’une volonté affirmée (un « ordre ») du ou des dominants cherche à influencer l’action d’autrui (du ou des « dominés ») et l’influence effectivement, dans la mesure où […] cette action se déroule comme si les dominés avaient fait du contenu de cet ordre, en tant que tel, la maxime de leur action (« obéissance ») ». Le dominé n’obéit pas en raison d’un rapport de force qui le contraint, mais en raison d’un ordre symbolique qui lui fait accepter  l’obéissance « acritique et sans résistance » au dominant et d’en percevoir la légitimité. Cette dernière  est donc une composante fondamentale de la domination. Ceci explique l’intérêt du sociologue pour les titres de légitimité de la domination à coté, sinon au détriment, de ses modes de fonctionnement.
          Après une première partie consacrée à définir le concept, quatre autres portent sur les trois typologies différentes de domination légitime: la rationnelle-légale, la traditionnelle (à laquelle est ajoutée, comme cas-limite, le féodalisme) et la charismatique. L’ordre des chapitres ne suit pas le développement historique mais tend plutôt à l’inverser. Une sixième et dernière partie porte sur la dichotomie domination politique/ domination hiérocratique (pouvoir légitimé par les prêtres ou exercé directement par une église). On peut reprocher au plan général son absence de rigueur, mais cela pourrait s’expliquer par l’état inachevé des manuscrits. Notons toutefois qu’à l’intérieur de chaque partie, Weber commence par un important travail d’abstraction, puis se lance dans des exemples et multiplie les comparaisons.
La domination bureaucratique, qui prévaut dans les Etats modernes, s’appuie sur une constitution écrite et s’exerce au nom de la loi, donc d’une entité impersonnelle et prétendument rationnelle. Elle est aux mains d’un groupement où l’on peut nettement distinguer un état-major de fonctionnaires politiques et une administration recrutée par examens et concours. La domination patrimoniale, plus ancienne, se fonde « sur des relations de piété strictement personnelles » et non sur des critères techniques. Elle est « en germe » dans le patriarcat, c'est-à-dire l’autorité du maître de maison sur sa famille. Elle peut aussi se manifester comme soumission à la tradition : « Que l’homme ne change jamais une coutume », dit le Talmud.
La  domination charismatique, contrairement aux deux précédentes, ne trouve pas originellement sa place dans l’économie et la gestion vitale du quotidien. « Le charisme fait reposer son pouvoir sur la croyance dans une révélation, sur la foi dans des héros, sur la conviction émotionnelle de l’importance et de la valeur d’une manifestation de type religieux, éthique, artistique, scientifique, politique(…) ». Mais comme il n’est pas une formation institutionnelle permanente, il faut le « quotidianiser », trouver un successeur au prophète ou au chef où le charisme soit présent…Évidemment aucun de ces types idéaux ne se retrouve seul et la géographie et l’histoire se chargent de trouver entre eux des compromis.

          La domination est un livre d’une inépuisable richesse quant à l’ampleur de l’enquête, du « village nègre » aux « grandes formations étatiques », et quant à la catégorisation d’ensemble.  Pour les militants d’un renouveau dans notre région, il offre un double intérêt capital. En mettant  à nu les ressorts de la légitimité traditionnelle et charismatique et en montrant la « forte puissance de stéréotypisation » de la théocratie, Max Weber, conservateur et pessimiste,  ouvre des voies éthiques et politiques de salut terrestre. Traitant de toutes les communautés humaines, de la Chine et du Japon aux tribus amérindiennes en passant par « l’Asie antérieure » et l’islam, dans ce qu’elles ont de commun et de différent, il insiste sur une voie spéculative qui n’a que faire de la dualité Orient-Occident et du « choc des civilisations ».