Friday 7 March 1980

الكلمة الدخيلة: ايديولوجيا







عبدالله العروي: مفهوم الايديولوجيا، الأدلوجة، دار الفارابي، بيروت، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، 1980، 142 صفحة.

يحتل مفهوم الايديولوجيا موقعاً مهماً في الفكر المعاصر. وقد نجم عن هذا الموقع المركزي استخدام عشوائي افقده كل تحديد دقيق، وكل استعمال صارم. والمفهوم بحد ذاته يطرح عدداً كبيراً من التساؤلات لا يسهل دوماً الاجابة عنها. أدى هذا الوضع الى تكاثر عدد المؤلفات التي تعالج مسألة الايديولوجيا وعلاقاتها بالمفاهيم الاخرى مثل اللغة والتاريخ والطبقات والدولة والفكر الخرافي والعلم ... وقلما يمر عام دون أن نرى كتباً جديدة في هذا الموضوع ومقالات تعالجه في جانب من جوانبه.
وليس عبد الله العروي بغريب عن هذا المفهوم فقد سبق له أن استخدمه في مؤلفه الايديولوجية العربية المعاصرة (1) والانتقال من دراسة الايديولوجيات السائدة في العالم العربي الى دراسة مفهوم الاديولوجيا المجرد خطوة طبيعية وضرورية. وهذا  الكتيب "الادلوجة" يوسع محاضرة  ألقيت في كلية الاداب بالرباط  و" يبسطها".
عمّت كلمة ايديولوجيا وانتشرت لذا لا يبحث العروي عن بديل عربي لها رغم تأكيده اقتراب لفظة "الدعوة" في الاستعمال الباطني من فحواها. الكلمة" دخيلة على جميع اللغات الحية" (2) بما في ذلك لغتها الاصلية الفرنسية إذ عادت إليها من المانيا بمضمون آخر مختلف عن المضمون الاصلي الوارد عند كابانيس ودستوت دي تراسي... يقترح العروي تعريب الكلمة كلياً وادخالها في قوالب الصرف واستعمال كلمة ادلوجة وتصريفها بحسب قواعد العربية. إن كلمة ادلوجة أسهل لفظاً واعتماد مشتقاتها يتيح استخدام العديد من المفاهيم لكنها توحي، نظراً الى وزن افعولة الذي تعتمده والذي يستخدم عادة للتصغير (مثلاً: أكذوبة)، أنها تشير الى المقطع الايديولوجي الادنى (ايديولوجيم) اي ما يقابل الفونيم في علم اللفظ والمونيم في علم الدلالة. ويطلق العروي اسم ادلوجياء (3) على نظرية الادلوجة كما  سنرى ذلك لاحقاً.
تهدف الدراسة بشكل رئيسي الى بلورة المفهوم والى تنظيم استعماله والى ربطه بالمنظومات الفكرية التي صدر عنها: "إن أحد اهداف هذا البحث، بل الهدف الأساسي منه، هو التوصل الى قاعدة لاستعمال مفهوم الادلوجة بكيفية مرضية".(4)  وينهي المؤلف دراسته بتكرار الهدف الذي سعى الى تحقيقه: "ادخال شيء من النظام في ميدان كثر فيه الخلط" (127): فتداخل التحديدات منتشر في الفكر الغربي وهو "أكثر استفحالا عند الكتاب العرب".
يعود تشابك الافكار داخل مفهوم الايديولوجيا الى طبيعة هذا المفهوم الخاصة فهو "مفهوم اجتماعي تاريخي ويالتالي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية وسياسية عديدة".(5)
إن ماركس هو الذي طبع هذا المفهوم بطابعه الخاص وأعطاه الاهمية التي ما زالت له الى اليوم في ميادين البحوث الاجتماعية(29). لكن مانهايم هو الذي نشر الكلمة خارج الاوساط الماركسية وجعل منها "المفهوم المحوري" (46) في علم السياسة واجتماعيات الثقافة. ودراسة "التفكير الأدلوجي"دون الالتفات الى المضمون "لم  تظهر إلا في نطاق العلم الوضعي الحديث وبالضبط في أواخر القرن التاسع عشر"(108).
يقود تعدد استخدامات عبارة الايديولوجيا  العروي الى إدراجها في أطر ثلاثة. الاطار الاول هو"الادلوجة القناع" ويحشر العروي في هذا الاطار كلا من ماركس (ومانهايم الذي يعمم النقد الماركسي على الماركسية ذاتها فيجعل منها ايديولوجية بين الايديولوجيات) ونيتشه وفرويد . ثمة حاجز يمنع رؤية الواقع الاجتماعي والكائن الطبيعي كما هما. وهذا الحاجز هو الانتماء الطبقي عند ماركس وحقد المستضعفين عند نيتشه والرغبة عند فرويد. الاطار الثاني هو "الادلوجة –النظرة الكونية" التي تميز حقبة من حقبات التاريخ. ورث ماركس هذا المفهوم عن هيغل والفلسفة الالمانية لكنه فك ارتباطه بتطور العقل المطلق وقيّده ببنية الانتاج المادي التي تتيح للمجتمع الاستمرار والنمو. اما ماكس فيبر ، فقد سار على خطى الاجتماعيات الالمانية نحو النسبية: رفض ربط الذهنيات بالقاعدة المادية مؤكداً ان القيمة تنتج عن قيمة لا عن واقعة والغى المطابقة التلقائية بين الواقعة التاريخية وإدراكها في ابحاث المؤرخ. يبني المؤرخ نموذجاُ ذهنياً ثم يربطه "بعلاقة تفهيمية" بنموذج آخر ربطاً يبقى في حيز الظني والممكن. ويمسك اخيراً عن الحكم على القيم المحورية التي شيدت عليها النماذج الذهنية.
ينقلنا الاطار الثالث والاخير  من ميدان العلوم الاجتماعية إلى ميدان الفلسفة ومن مستوى الادلوجة الى مستوى الادلوجياء التي تهدف الى تمييز الايديولوجياعن العلم: "إنها في الواقع علم العلوم أو مجموع الشروط العلمية" (84). كل نظرية عن الايديولوجيا تفترض نظرية عن العلم. المعرفة العلمية عند ماركس تمتاز بالشمولية وبالتشديد على التطور التاريخي وبالتأكيد على عقلانيتها وبضمان البروليتاريا لها اي الطبقة التي "لها وحدها مصلحة بديهية في معرفة الحقيقة وعدم الاكتفاء بعلوم الظاهرات كما تفعل الطبقات الاخرى" (85) .
تتعدد استعمالات مفهوم الايديولوجيا لكن ثمة سمة مشتركة تجمع كل الاستخدامات وتوحدها: "إن مفهوم الادلوجة دائما مزدوج فهو في نفس الوقت وصفي ونقدي يستلزم دائماً مستويين: المستوى الذي تقف عنده الادلوجة حيث تظن انها حقيقة مطابقة للواقع... والمستوى الثاني هو الذي يقف عنده الباحث عندما يحكم على الادلوجة انها ادلوجة لا تعكس الواقع على وجهه الصحيح" (81).. "في هذه الاستعمالات الخمسة تتغاير التعابير.. وتختلف المطلقات التي تميز الادلوجة عن الحق... لكننا نلاحظ فيها تشابهاً بنيوياً. كل استعمال يفرق بين الظاهر والخفي، بين الملموس والحقيقي، بين الوجود والقيمة، ويحدد بالتالي الادلوجة انطلاقاً من الحق الثابت، فيرفع قناع الادلوجة عن الحقيقة الباطنية" (104).
عيّن المؤلف وحدة مفهوم الايديولوجية وتعدد مصادره واستخدامه فهل حقق كلياً الهدف الذي سعى اليه؟ ليست مطالعة الكتاب شائقة والعديد من الصفحات يفتقد الى الوضوح. تقديم هيغل مبهم ومغرق في العموميات. تقديم فرويد مبسط الى حد التشويه(4). تصميم الكتاب وتوزيع نظرية ماركس المحورية على جميع الفصول غير مقنع ولا يساعد على ايضاح المفهوم. لكننا لن نتوقف عند هذه المسائل التفصيلية على اهميتها. نفضل أن نبدي  عدداً من الملاحظات تساعد على وضع مفهوم الايديولوجية في إطار صحيح.
إن ما يفقد مفهوماً ما جدواه في الابحاث العلمية اتساعه وشموله. وليس لمفهوم  الايديولوجيا كما يعرضه العروي أي حدود واضحة. فهو يشمل جميع الممارسات الفكرية ومن ثم الجزء الاكبر من الحضارات الانسانية: الأديان، الخرافات، العقائد  السياسية، الأنظمة الفلسفية، الأمثال الشعبية... العلم نفسه الذي يحدد الايديولوجيا بتمايزه عنها يغرق احيانا في خضم الايديولوجيات(5). ولما كان الفصل بين الماديات والذهنيات امراً صعباً(6) اصبحت الايديولوجيا الميدان التاريخي بمجمله. فما هي اذاُ جدوى هذا المفهوم في الأبحاث الاجتماعية؟ اذا كانت الايديولوجيا تشمل كل شيء فلا شيء يميزها وكل عنصر من عناصرها يحتاج الى تعيين  طبيعته ودوره وفعاليته(7). إن دراسة العروي تندرج في ميدان تاريخ الافكار لا في ميدان منهجيات علوم الاجتماع.
تقودنا هذه الملاحظة الحاسمة الى سمة اخرى من سمات الايديولوجية في محاضرة العروي. إن مفهوم"الادلوجة" كما يعرضه هو مفهوم "مثالي" أو هوائي. فالمؤلف يعالج المسألة من زاوية المحتوى فقط دون أن يعير أي اهتمام لجذور الايدولوجيا الاجتماعية ولدورها في المجتمع: ما هي علاقتها بسائر المستويات الاجتماعية؟ ما هو موقعها من جهاز الدولة؟ ما هي علاقتها بالفئات التي تنتجها (المثقفون)؟ إن هذه المسائل محورية اليوم في كل بحث تاريخي وهي تفسر وجود ثغرة اساسية في عرض العروي: غياب غرامشي (8) ولم يرد ذكر هذه المسائل خلال العرض المشتت لنظرية ألتوسير إلا ضمن اطار محتوى المفهوم الذي يقوم بتحويل "الافراد الى ذوات". ولا يشذ كتاب العروي الاخير عن الخط الذي اعتمده المؤلف في كتاب الايديولوجية العربية المعاصرة الذي صنف فيه الايديولوجيات انطلاقاً من محتواها وخصوصاً من وعيها للغرب مشيراً اشارات عابرة الى مواقع المثقفين في المجتمعات العربية(9).
الملاحظة الأخيرة التي نريد أن نبديها ذات طابع فلسفي ولا تطول العروي وحده وانما تياراً عاماً تشكل الماركسية احد ابرز وجوهه وتنخرط رؤية العروي كلياً فيه. أظهر المؤلف أن وحدة مفهوم الايديولوجيا خلال جميع استخداماته تكمن في ازدواجيته: الايديوبوجية رؤية مغايرة لواقع ينعكس في الحق والعلم. إنعكاس الواقع في الذهن هو القاعدة البديهية والطبيعية والادلوجياء هي "دراسة الاسباب التي تمنع الذهن البشري من عكس مباشر لبنية الاشياء"(ص.79). ومفهوم "الادلوجة" هو ايضاً مفهوم بديهي وطبيعي وضروري حالت اعراض تاريخية دون ظهوره في الفلسفة الاغريقية والمذاهب الإسلامية: "لم يصل (الغزالي) الى تمثل مفهوم الادلوجة بسبب فرضية الشيطان التي كانت تمدّه بتفسير جاهز للاعوجاج الفكري" (ص.22). " اذا امعنا النظر في المواقف الثلاثة، مواقف الأفلاطونية والغزالية وفلسفة الأنوار، وفي الموانع التي أوصدت دونها باب اكتشاف مفهوم الادلوجة، ندرك أن ما كان ينقصها جميعها هو فهم صحيح لمعنى المجتمع ولمعنى التاريخ"(ص.25). وكما يجد العروي مفهوم "الادلوجة" قبل "الادلوجة"، فكذلك يسقطه اسقاطاً على مفكرين يؤدي نظامهم الفكري الى رفضه أمثال نيتشه:" بيد أن ما يهمنا في نظرية نيتشه هو جانبها المنهجي... الادلوجة عند ماركس قانون يخفي تقدم التاريخ وعند نيتشه ستار يبعد عن الحياة"(10).
لا ريب أن العروي محق حين يظهر الجذور القديمة لمفهوم  الايديولوجيا وعمق صلته بمجمل التراث الفكري الغربي منذ افلاطون. لكن قِدم المفهوم لا يعني ابداً بديهيته بل إن ازدواجيته تظهر بوضوح قيامه على عدد من المفاهيم والافتراضات سادت طويلاً وما تزال لكنها قابلة للنقد: ثنائية الكائن والمعرفة، تحديد العلم على انه انعكاس الكائن في المعرفة، اعتبار الحقيقة الموقف الاولي والطبيعي والايديولوجية الشواذ المطلوب تفسيره، ثنائية البنية التحتية والبنية الفوقية... ليس هنا المكان الصالح للقيام بمثل هذه الدراسة. غير ان محاولة العروي في كتابه شبيهة بعمل مسح طوبوغرافي لظهر سفينة يدخلها الماء من كل جانب وقد شارفت على الغرق.
ولا يشكل انقاذ هذه السفينة في رأينا ضرورة انسانية أو قومية مما يحثنا على مراجعة مفهوم "الماركسية الموضوعية" الذي دعا إليه العروي في مؤلفاته السابقة(11).



(*) تشير الى الارقام السوداء الكبيرة الى صفحات الكتاب.

(1) الطبعة الاولى بالفرنسية في باريس عام 1976 والطبعة الاولى بالعربية في بيروت عام 1970. يستخدم العروي هذا المفهوم في مؤلف آخر العرب والفكر التاريخي صدر في بيروت عام 1973.
(2)  ص.9.
 (3) ص ص10،79،84،109.
(4) "يقول فرويد أن منتجات العقل تبريرات خلقها الانسان المتمدن لمعارضة دفع الرغبة الجارف ويعلل قوله استناداً الى طبيعة الانسان الحيوانية" (!!!)(ص.43)
(5) " إن الفرق في الواقع لا يمس العلم والادلوجة لان العلم المكوّن قد يصبح ادلوجة والادلوجة تقدم ذاتها كعلم" (ص.107-108).
(6) " لكن فيبر كشف عن حقيقة لا يمكن نفيها وهي أن التمييز بين الماديات والذهنيات في مستوى اجتماعيات الثقافة غير ممكن"...(ص72)
(7) يقول المؤرخ بول فين: "من الجيد أن نكرر ان الايديولوجيا تقوي العلاقات الاجتماعية الفعلية ولكن من الافضل ان نحدد ما اذا كانت الايديولوجيا التي نتحدث عنها مثلا شعبياً او ثرثرة اكاديمية او نظرية يفرضها جهاز الدولة، ففعالية كل واقعة من هذه الوقائع مختلفة عن فعالية الاخرى"Paul Veyne: Le Pain et le cirque, Paris, 1976, pp.670-671.
حول المشاكل التي تعترض إي تحديد لمفهوم الايديولوجيا راجع مقدمة Paul Bachler. Qu’est ce que l’idéologie? Paris -1976 .pp.11-22
(8) يرد اسم غرامشي مرة واحدة في الكتاب (ص.92) في عداد اتباع لوكاش.
(9) هذا ما نبه اليه رودنسون في مقدمة الطبعة الفرنسية صxii:(الطبعة العربية الاولى .ص.12)
(10) يحول العروي مفاهيم نيتشه الفلسفية الى مفاهيم بيولوجية وتاريخية  مستفيداً من بعض الصيغ التي لا تشكل سوى "نقاط الانطلاق الظاهرة" لفلسفة نيتشه. راجع:
Jean Granier : le problème de la vérité dans la philosophie de Nietzsche, Paris, 1966, pp.395-410.
حول هدم نيتشه لمفهوم الايديولوجية راجع مقال بول فين:
Paul Veyne:”l’idéologie chez Marx et chez Nietzsche” Diogène, no99, 1977, pp.93-115
(11) "إن الامة العربية محتاجة في ظروفها الحالية الى تلك الماركسية بالذات لتكوّن نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافياً واقتصادياً وسياسياً ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويغذي نفه بنفسه". (العرب والفكر التاريخي، ص. 31)

                                     قراءات، العدد صفر، بيروت، 1980