Tuesday 5 June 2018

الإحباط المسيحي في لبنان نهاية القرن الفائت





من مسرحية بيكيت نهاية اللعبة
الاحباط ومسرح العبث[1]
        هل كان صموئيل بيكيت، الكاتب الإيرلندي المقتصد العبارة إلى أبعد الحدود، يتحدث عن الوضع الإنساني العام أو عن أزمة الأديب المعاصرلما ورد على لسانه: " أن لا تريد أن تقول شيئاً، أن تجهل ما تريد قوله، ألا تكون مقتدراً على ما تظن أنك تريد قوله، وأن تظل تقول، مع ذلك، أو تكاده" ؟ مهما يكن من أمر، لم يرد بخاطر صاحب نهاية اللعبة أن عبارته هذه تصلح وصفاً بليغاً لحالة معينة ألقت بكاهلها على فريق لبناني في مرحلة محدودة من تاريخه، ما زلنا نجهل ما ستؤول إليه. أما الفريق، فهو مسيحيو لبنان (أو موارنته)، أما المرحلة، فهي الأعوام التي تفصل اتفاق الطائف عن انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، أي ما يقارب العشرة أعوام (1989-1998). أما الحالة، فهي ما أطلق عليه تسمية الآحباط وما وصفه البطريرك الماروني في رسالة الفصح للعام 1994 [2] على أنه "إنكفاء عن المشاركة في مسيرة الدولة".
        تُرى كان جوهرُ المسألة في غياب الإرادة لتجاوز الأوضاع المشكو منها، وهو معنى الاحباط الأصلي؟ أم تُرى كان في غياب التصوّر الواضح والكامل لهذه الأوضاع، رغم التعدادات الطويلة والمحققة لخروقات وثيقة الوفاق الوطني والتوازن العام؟ أم كان في القدرة الفعلية على الخروج من المأزق؟ أم كان أخيراً في غياب حيز التعبير الحر عن الهموم الفعلية؟ تنقل الأسئلة الأربعة هذه مسألة الاحباط من الأسباب الموجبة –التي عددّها كل من فريد الخازن ومحمد حسين شمس الدين وفصّلها في ميدان عودة المهجرين كمال فغالي- إلى ردّة الفعل الأساسية على هذه الأسباب: لماذا أدّى القهر إلى استقالة المقهورين من العمل العام اللبناني وهم وظفوا فيه تاريخهم ومستقبلهم كجماعة حرة متعايشة مع غيرها، ولم يؤدِ إلى استجماع قوى المقاومة واستنهاض رافعات الرفض بصور فاعلة وإيجابية؟
        قبل الإجابة عن الأسئلة المطروحة، علينا تبديد التباسات عدة يمكن أن تُعزى إلى صياغتنا. ما قلناه لا يعني أبداً أن وحدة المسيحيين السياسية والفكرية في لبنان متحققة أو قابلة للتحقيق. وهو لا يعني أيضاً أن على المسيحيين سلوك طريق واحدة في الممانعة، أو أن هكذا طريق موجودة ومرسومة. وهو لا يعني أخيراً أن البديل عن الاحباط نهج يقتصر على المسيحيين دون سائر اللبنانيين. بل إن أحد أوجه المشكلة هو في ما أوجزه لي مرة وزير سابق على الوجه الآتي: التلاقي مع المسلمين في خطوة رامية إلى استعادة القرار اللبناني ممنوع، والتحرك بدون المسلمين له صبغة طائفية سهلة التطويق والتهشيم. المشكلة اللبنانية تتطلب حلاً لبنانيا وإلا تناقضت الوسائل مع الأهداف وفقدنا أرضاً نريد عليها بناء الدار.

***
        السؤال الأول: هل حرية التعبير، في المواضيع الجوهرية التي قادت إلى "الاحباط" متاحة إتاحة وافية؟ لا ريب أن حيّز التفكير العلني ما زال في لبنان أوسع منه في البلدان العربية المجاورة. وهو متاح ربما للمسيحيين أكثر منه لأبناء سائر الطوائف الذين يمكن أن يتعرضوا لاشكال إضافية شتى من الإرهاب المادي والمعنوي. لكن لحرية التعبير في المسائل الأساسية حدود. تبدأ هذه الحدود من ذكرى الاغتيالات والتصفيات التي لم تمر عليها عقود بعد، وتنتهي بالعراقيل في الحياة اليومية التي يرى المواطن العادي أنه بغنى عنها. والمحظور(باستثناء المحرمات المطلقة) غير معروف الحدود سلفاً وهو قابل للتوسيع والتضييق: فالنقد مقبول إذا أفاد للتنفيس ومهّد لللاستيعاب، وهو محرّم إذا اندرج في سياق عملي. وغياب الإشارات الواضحة إلى المحظورات يقود إلى استيعاب الناس للرقابة، وإلى تحويلها لرقابة ذاتية. وخير مثال على الرقابة الذاتية المقولة التي يكررها أهل السياسة في هذه الفترة: " الوجهاء اللبنانيون يقحمون السلطات السورية في الشؤون الداخلية اللبنانية، وبودّ هذه السلطات لو يريحوها من هذا العبء."
        وما يزيد في التلعثم الذاتي للبنانيين أسلوب "الرمزية"[3] الذي تعتمده سوريا في الشأن اللبناني والذي يصفه أحد الصحافيين على الوجه الآتي: " ذلك أن سوريا أظهرت خلال تعاطيها الطويل مع لبنان ميلها إلى عدم طلب ما تريد من اللبنانيين ولا سيّما من قادتهم وزعمائهم وتحديداً من مراجعهم الكبيرة بوضوح وصراحة وتفضيلها ترك هؤلاء يستنتجون من خلال الأحاديث المتبادلة والمناقشات المواقف التي تريحها والتي تستحسن أن يتخذوها حفاظاً على مصالحها ومصالح لبنان في الوقت ذاته."
        يفسر ما سبق غياب قدرة "المحبطين" على اطلاق حوار حر وعلني يبلوّر ما يرفضونه ويرسم آفاقاً للخروج منه، ويفسر أيضاً انتقال الكلام السياسي (بالمعنى الدقيق للعبارة) إلى

سلطة غير سياسية – البطريرك الماروني المسموح له وحده ربط جوانب المسألة الوطنية كافة دون أن يكون لكلامه نتائج أو مفاعيل مباشرة.
***
    السؤال الثاني: هل غابت القدرة على الخروج من الواقع المأزوم، لا بل، كما رأى ذلك فريد الخازن في مقالته، القدرة على التأثير في الأمور؟ إن دخول القوات السورية مناطق المتن، وتفكيك قواعد القوات اللبنانية بعد حل تنظيمها وسجن رئيسها ومحاكمته، افقد المسيحيين بديلا نظرياً أو موهوماً عن لبنان الواحد تُحسن أحياناً الإشارة إليه أو التوعد به. يضاف إلى ذلك أن الهيمنة السورية على لبنان لا تلقى ظاهراً معارضة أطراف أخرى، بل تحظى بموافقة دولية تجعل مجرد التفكير بالخروج عليها من أبواب المستحيل. يرسم طلال الحسيني المشهد السياسي اللبناني على الشكل الآتي آخذا بالاعتبار الأبعاد المتعدّدة: "1. إن الحكم سوري، 2. بأدوات لبنانية، 3. وبتسليم ورضى أميريكيين، 4. مما له علاقة باسهام وتأمين سعوديين، 5. يوازيهما هامش عمل إيراني، 6. ومداخلات فرنسية، مسرحية وواقعية، 7. ومتابعة فاتيكانية بعيدة، أقرب شيء فيها اللاهوت، 8. وهو كذلك، أي حكم سوري، بمعارضة مسيحية، 9. وترصّد إسرائيلي، فيه بعض المواجهة. وهذه حقاً فرجة دولية".[4]
    والقيادات التي يتباكون أحياناً على تغييبها في المنفى أو السجن (ولا ننكر عليهم أبداً هذا الحق!)، هي مصدر للاحباط أكثر منها نافذةٌ على الأمل. تاريخها هو تاريخ الفشل في رسم سياسة واقعية تربط الأهداف الوطنية الممكنة بالوسائل المتاحة. وخير دليل على كلامنا ما وصلت إليه البلاد نتيجة تبّؤ عدد منها المسؤوليات الرسمية. عملت هذه القيادات، وسط ظروف داخلية وخارجية صعبة بلا أدنى ريب، لكن سلوكها العام غالباً ما ساهم في تدهور الأمور وفقدان البلاد وحدتها الوطنية واستقلالها.
    كيف يمكن للقدرة أن تقوم دون هدف معلن أو مبيت، ودون قيادات قادرة على رسم تصور متماسك، ودون تحالفات إقليمية ودولية؟ وكيف يمكن لها أن "تطمئن" (العبارة لشمس الدين) وسط انحسار ديموغرافي غير واضح المعالم قادت إليه الحروب والهجرات والحداثة؟
    ما سبق يقود إلى قلب "مأساة" "الاحباط": سوريا هي الطرف المعتدي على السيادة اللبنانية والطرف المصادر للقرار اللبناني، وهي الطرف الضامن للأمن اللبناني (انتشار الطوائف في المناطق كافة، رغم بعض الثغرات الصغرى والكبرى) وللتوازنات اللبنانية الشكلية المرسومة في اتفاق الطائف (المناصفة في مجلس النواب والوزراء، وفي وظائف تتجاوز غالباً الفئة الأولى...). وأعيان المسيحيين أمام خيارين أحلاهما مرّ: إمّا التخلي عن المطالبة بالسيادة والحفاظ على المواقع في النظام، وإما الإصرار على المطالبة بالسيادة والمجازفة بفقدان مواقع في النظام يُرجّح أن يكون فقداناً نهائياً.[5]

***
    السؤال الثالث: هل ثمة تصور واضح لدى الطرف "المحبط" للأوضاع المتشابكة بين الداخل والخارج، بين الطوائف والوطن؟ خروقات اتفاقية الطائف واضحة للعيان، لكن هل هذه الاتفاقية التي جردت الرئاسة الأولى من قدر كبير من صلاحياتها مقبولة في حدّ ذاتها لدى المسيحيين وتصلح مرجعاً يركن إليه؟ من انتصر في الحروب اللبنانية: هل هم الشيعة التي أصبحت رئاستهم للبرلمان موقعاً محورياً يتحكم بعرض القوانين على الهيئة العامة ويسيطر على مجلس نيابي غير قابل للحلّ؟ أم هم السنّة الذين أصبحت رئاستهم لمجلس الوزراء السلطة الأولى في الدولة؟ هل انتصر فريق داخلي أو إن كل الفرقاء أسرى اللعبة الخارجية؟ هل التدخل السوري في لبنان عرضي أو إنه يؤسس لسيطرة مطلقة ويأنف عن الدعوة إلى الوحدة لأنها ليست في مصلحته بعد؟
    ما أشكال الهيمنة السورية على لبنان بدءاً بالتواجد العسكري والعمل المخابراتي، مروراً بمحتوى قانون الانتخاب، وصولا إلى الاتفاقات الثنائية والتفاصيل الادارية؟
    بعض هذه الأسئلة غير مطروح بجديّة، وبعضها يتلقى أجوبة غامضة ومتعارضة.[6]هذا ويتطلب الوصول إلى رؤية واضحة وجامعة جرأة (مما يعيدنا إلى السؤال الثاني) ونقاشات حرّة وعلنية (مما يحيلنا إلى السؤال الأول). الغموض النظري في أساس "الاحباط"

والجماعات، كما رأى ذلك كارل ماركس، لا تطرح إلا المسائل التي لها القدرة على معالجتها.
***
    تُغني الإجابات الثلاث السابقة عن طرح السؤال الرابع ومحوره الإرادة. فغياب القدرة مضافاً إلى غياب وضوح الرؤية وحيّز الحرية يفسر تلاشي العزيمة، والوهن العام المسمّى احباطاً. ولكن ما يجب ألا يفوتنا هو أن عبارة "الاحباط" سياسية بقدر ما هي وصفية. فالطرف المُحبِط رأى فيها وسيلة من وسائل إغراق "المحبَطين" في احباطهم ودعوة لهم إلى الإرتماء في أحضانه كسبيل وحيد للخروج من الحالة المنكودة هذه. وبعض أعيان المحبَطين رأوا في العبارة وسيلة للاستجداء وبضاعة للتسويق: " نحن مُحبَطون، فما الذي تقدموه لنا للخروج من ليلاءنا إلى ما يفيدكم ويفيدنا؟" هذا وما كاد عنوان العنوان يتغير حتى سارع أولياء أمر إحدى الطوائف إلى تكريس احباط جماعتهم طلباً لثمن سياسي يُقبض للخروج منه.
    ليس السؤال المهم اليوم : هل إنتهى الاحباط؟ فمن الواضح أن معظم اسبابه قائمة، وأن بعضها تفاقم. السؤال اليوم هو: هل يتلاقى اللبنانيون للدفاع عن حيّز من الحرية ينتج عنه تكوين رؤية يعجز عنها كل فريق بمفرده وهل تولد من هذه الرؤية قدرة جماعية قادرة على الاضطلاع بمسؤوليات البلاد؟

10 تشرين الأول 1999            



[1]  في العام 1999، طلب مني الدكتور أحمد بيضون، المسؤول يومها عن مجلة المرقب، إعداد ملف خاص والتقديم له يدور حول الإحباط المسيحي السائد يومها. طلبت من فريد الخازن وجهاد الزين وكمال فغالي ومحمد حسين شمس الدين معالجة المسألة كل من وجهة نظر. لم يصدر العدد يومها بسبب خلافات بين المسؤولين عن الدورية لا علاقة للملف بها.
أنشر اليوم هذه المقالة لما قد يكون فيها من فائدة تاريخية تجاوز الزمن عناصر عديدة منها.
"الإحباط ومسرح العبث" هو العنوان الأصلي للمقالة. 
[2]  يورد محمد حسين شمس الدين مقاطع منها في مقاله.
  [3] سركيس نعوم: "سوريا" "رمزية" فافهموها" ، النهار 19/7/ 1999.
[4]  رأي حر نُشر في جريدة النهار.
[5]  لولا النفوذ السوري لما كان لانتخابات العام 1998 البلدية والاختيارية مثلا أن تجري في ظل التوازن العام التقليدي الذي جرت فيه.
[6]  في المقابل، "معرفة" اللبنانيين " متوافرة عند سوريا وهي التي جعلتها وستجعلها دائما قليلة الثقة بهم كلهم وهي التي دفعتها إلى رعاية قيام توازنات داخلية متناقضة عاجزة لوحدها ومن دون تغيير جوهري وجدّي في مواقف الخارج من لبنان ومن سوريا عن اتخاذ مواقف موحدة من أي موضوع صغيرا كان أم كبيرا" . سركيس نعوم، النهار، 20/5/1998.