Saturday 30 March 2019

الفلسفة والغرب









من مسرحية هاملت لشكسبير

" إن العبارة المتداولة   ‘الفلسفة الغربية الأوروبية‘ هي، حقيقةً، تحصيلٌ حاصل. لماذا؟ لأن الفلسفة بجوهرها يونانية - وإن ما تعنيه عبارة ‘يونانية‘ هنا هو الآتي : الفلسفة، في أصل كائنها، ذات طبيعة جعلتها تُمسك بداية بالعالم اليوناني، للتجلي فيه و به وحده دون سواه" . إن تعريبنا لنص هيدغر الوارد أعلاه، على الأرجح، غير دقيق لنقلنا إياه عن الترجمة الفرنسية(1)، لا عن الأصل الألماني(2)، ولصعوبة عبارة المؤلف، ذات التأني والتنميق . لكن ما يبلغنا من معاني النص حاسم في مآله ولو أثار التساؤلات في كثرة التواءاته. أما التساؤلات فمبعثُها انزلاق العبارة السريع من ‘الفلسفة الغربية الأوروبية‘ إلى ‘الفلسفة اليونانية‘، والكلام على الفلسفة كصانع للغرب، لا كمُعبّر عنه، وذلك عبر صورة الكائن المستقل الباحث عن مجتمع لالتقاطه والتجسد فيه وعبره. وأما الحسم، فهو في اقامة التماهي التام أو شبه التام بين الفلسفة والغرب، إذ يضيف هيدغر : "ان التأكيد : ‘الفلسفة يونانية في جوهرها ذاته‘  لا يعني شيئا غير القول: الغرب وأوروبا هما ، وهما وحدهما، في صميم مسيرتهما التاريخية، ‘فلسفيان‘ أصلا" (3). وما يقوله هنا صاحب الكينونة والزمن  يختلف لجهة تشخيص الغرب (مسألة التقنية) وتقييمه عما رآه استاذه هوسرل، لكنهما يتلاقيان في قضية تعيين الرباط الوثيق بين الفلسفة وما يسميه مؤسس "الظهورية"(4) "الانسانية الأوروبية ":
"صورة اوروبا الروحية – ما هي ؟ هي تبيين کمون immanence الفكرة الفلسفية في تاریخ اوروبا (اوروبا الروحية) او، بعبارة أخرى، اعلان الغائية Téléologie الكامنة داخل هذا التاريخ عن ذاتها، من وجهة نظر الإنسانية الكلية عامة، وذلك باقتحام عصر جديد من عصور الانسانية وتدشينه، عصر الإنسانية من حيث هي إنسانية، والتي انطلاقا من هذا التاريخ لم تُرِد العيش ولم تستطعه إلا في رسم وجودها الحرّ، في حياتها التاريخية، في افكار العقل، في مهمات لا تنتهي"(5).
وقبل الفيلسوفين السابقين، حسم هيغل، على طريقته ومنهجه، ومن منطلقاته الخاصة، مسألة انتماء الفلسفة الى الغرب بالقول : " الفلسفة بحصر المعنى تبدأ فقط في الغرب : الروح يدخل في ذاته ، ويغوص في ذاته، ويؤكد ذاته حرةً ، وهو حرٌ لذاته ؛ إذن في الغرب وحده يمكن أن توجد الفلسفة، ففيه وحده دساتيرٌ حرة ... في اليونان تبزغ حريةُ الوعي الذاتي، وفي الغرب ينزل الروحُ داخل ذاته. في بهاء الشرق، ينمحي الفرد ولا يكون إلا ظلّ الجوهر. في الغرب يصبح هذا النور صاعقة الفكر النازلة على نفسها، الممتدة من هناك وخالقة عالمها من الداخل"(6).
تقيم النصوص السابقة علاقة لا انفصام فيها بين الفلسفة و "الغرب"، وليس من باب الصدفة انها تعود كلها إلى القرن التاسع عشر وما يليه . فانطلاقا من القرن المذكور، شهدت أوروبا (واميركا) تسارعاً في تحولات داخلية (توسّع الرأسمالية كنظام اقتصادي محرر لطاقات الصناعة، ولادة الدولة الحديثة ) أدت إلى زيادة تمایزها- أي أوروبا- عن المجتمعات الأخرى، مناطق وحضارات، وإلى إيجاد ميزان قوى جديد يتيح لها الغلبة العسكرية على "الأخرين"، وما يتأتى من هذه الغلبة أو يصبّ فيها، دون أن يمنع ذلك طبعأ تأجج الصراعات بين الدول الأوروبية ، وأخيرا قادت الى تحوّل "الغرب" حضارةً عالمية تغطي بشبكاتها المختلفة (تجارة ، مواصلات...) الكرة الأرضية كاملة. من الطبيعي بعد ذاك أن يؤدي صعود "الغرب" - بمقدار ما يتعالى فيه المفهوم العام هذا عن القوميات التي تشكلت فيها وعبرها الدولةُ الحديثةُ بدايةً – إلى اتجاهين فكريين متباینین، ما لبثا أن انصهرا في بوتقة جامعة . يشدد الاتجاه الأول على تمايز "الغرب" كحضارة غالبة ومسيطرة ، تحمل في ذاتها اسباب جبروتها، ويؤول اليها حمل هذا الإرث الحضاري أو ذاك (الفلسفة اليونانية، القانون الروماني، المسيحية ...) من غيرها من الحضارات الانسانية. ويرى الثاني أن الغرب ليس حضارة كسواه من الحضارات، إنما هو حضارة الانسان التي بلغت الكلية والشمول، فحققت العقل وسارت نحو السلام الدائم والازدهار والعدالة. أما انصهار النظريتين فرؤية تاريخية (الهيغلية ، الماركسية، الوضعية) ترى في ما سبقَ "الحداثة" (أسمّيت "العالم الجرماني" أم "الشيوعية" أم "الحالة الوضعية") مراحل ضرورية ومتتابعة على طريق بلوغ هدف واحد تحقّق اخيرا، أو هو في طريقه إلى التحقّق.
لكن نقاط الوفاق العامة بين الخطوط الكبرى للرؤية المتفائلة التي سادت في القرن التاسع عشر (هيغل، ماركس، أوغست كومت) واجهت رؤيـة مشككة ما بين الحربيـن الكونيتيـن نجمت عن هول الحرب الأولى وعبثيتـها، وتمثلت جزئيا في صعود الفاشية والنازية الرافضتين للعقل والكلية الإنسانية (التي نادى بهما هوسرل)، واصطدمت لاحقا برؤية متشائمة نجمت  عن الحرب الكونية الثانية، ومعسكرات الإبادة، والقنبلة النووية، وأهوال المشروع "الشيوعي"(الغولاغ)، وبلوغ "الغرب" بعضاً من حدوده الجوهرية في مواجهة الاخر والطبيعة (هيدغر) 6.
 إن هذه النقاط تطرح العديد من الأسئلة المطلوب الاجابة عنها : هل ثمة تشكيلة ثقافية اسمها "الغرب" ؟ ما مكوّناتها ؟ متى وأين بدأت؟ أهي وحدة متواصلة ومتراكمة عبر التاريخ ، ام إنها مجموعة من الانقطاعات التي تعيد تأويل وحدتها انطلاقا من بلوغ مرحلتها الأخيرة ؟ لا نملك طبعا جميع مفاتيح الإجابة عن هذه الأسئلة، لكننا نختار لإنارة بعضاً من جوانبها زوايا ثلاث :
 الأولى : هل تُشكل الفلسفة فكراً خاصاً ب"الغرب" ؟ وفي حال الإيجاب، كيف هيّأ "الغرب" نفسه للفلسفة وتعاملَ معها ؟
الثانية : ما موقع الفلسفة داخل "الغرب" ؟ أتُحدّد الفلسفة "الغرب" ام إنها من غشاواته وهوامشه؟
الثالثة : ما المنظومة الفكرية التي بإمكانها وصف "الغرب" وتعريفه؟ وهل للفلسفة دور محوري في المسألة ؟

-1-                                               
يورد نيتشه(7) في كلامه على العلاقة "المبرّرة" بين الفيلسوف والحضارة اليونانية في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد – عددا من الصور تصلح، في غناها ومجازها، مدخلا إلى المسألة. يقول : ليس الفيلسوف، في العالم اليوناني، "نَجما مذنّبا ... غير قابل للرصد، ومن ثم مخيفا "، أو "مسافرا ما وصل صدفة وظهر فجأة في هذا المكان أو ذاك ، بل هو بين أبناء مدن الاغريق، في ‘وسطه‘ و ‘محيطه‘، "كوكبٌ من المرتبة الأولى في نظام حضارتهم الشمسي". ما قدمته مستعمرات اليونان ومدنها للفلاسفة، او ما وجده الفلاسفة فيها، هو الجو المهييء لممارسة الفكر الحرّة والمؤاتي له . هل يعني هذا قطيعة تامة بين الشرق والغرب اليوناني الذي هو ‘الغرب الأول‘ ؟ ‘الشرق‘ في كل مكان في الفلسفة اليونانية . هو بدايةً في صعوبة تعريفه جغرافيا وعرقيا وحضاريا كما يبينُ ذلك مثلاً في "انفجار الشرق فعليا إلى عنصرين"(8) في تصنيفات هيغل الفلسفية التاريخية : شرقٌ أول يقع ما قبل بلاد فارس ويتواصل مع العالم الأفريقي، أي مع "النظام الطبيعي"، ويعجز عن بلوغ الصيرورة التاريخية، وشرق "غربي" يمتد من بلاد فارس إلى وادي النيل مرورا ببلاد ما بين النهرين والساحل الفينيقي، وهو على صلة وثيقة "بالغرب" والتاريخ. وهو ظاهرٌ تحديدا في قدرة اليونانيين- وهم التجار الذين وسّعوا، بعد الفينيقيين ومعهم ، حدود العالم المعروف يومذاك- على استيعاب ما انتجته الحضارات الأخرى : "قمةُ الحماقة أن تُنسب إلى الإغريق حضارة نابعة من أرضهم ؛ فهم ، على العكس من ذلك، استوعبوا الحضارة الحيّة للشعوب الأخرى كلها، وما تخطيهم لذلك الا لأنهم عرفوا كيف يلتقطون رمحا رماه شعب اخر وتُرِك أرضا ، فحملوه هم ورموه إلى أبعد."(9)

أقرّ الإغريق بنهلهم العلم من معارف البابليين الفلكية، ومعارف المصريين الهندسية، ومعارف الفينيقيين الحسابية ... وتُظهر الاكتشافات الأثرية يوما بعد يوم حجم القرابة بين روایات ولادة الكون المشرقية (وابرزها الإينوما إليش البابلية) وعمارات الفلاسفة الإيونيين(10). هذا وغالبا ما كان الفلاسفة الاول، وفي طليعتهم طاليس الملطي اول "حكماء" اليونان "السبعة" و "أبرزهم "(11)، أغراباً قَدِموا إلى مستعمرات اليونان، وعملوا فيها ما لم يكن بوسعهم القيام به في بلادهم الأصلية. أما البؤر التي استقبلت ابحاثهم ونوقشت فيها نتائجها، فكانت الأكثر بُعدا عن "المركز" اليوناني أي المستعمرات القائمة في ثغور ممالك الشرق وامبراطورياته (ملطيا وأفسس الواقعتان في ايونيا أي أسيا الصغرى) وفي جنوب ايطاليا وصقلية المعروفتين يومها باليونان الكبرى. وكانت تلك الثغور على علاقة حربية وتجارية بمحيطها، مما يزيد من أبعاد الاحتكاك بالشرق واهميته. يمكن القول، لختام هذه المسألة، أن مستعمرات اليونان ومدنه الاصيلة (اثينا) لم تكن أول مدن تجارية في التاريخ، مع ما للتجارة من أهمية في توسيع فسحة الحرية (أقله حرية انتقال البحارة والحرفيين)، والانفتاح والتواصل مع الشعوب كافة، "لكنها كانت الأولى التي لها ما يكفي من القرب من الامبراطوريات الشرقية القديمة، وما يكفي من البعد عنها، لتستفيد من هذه الامبراطوريات دون الخضوع لنمطها."(12)
يضيف دُلوز وغاتاري، صاحبا الكلام السابق، إلى ما ورد، أن ما وجده "المهاجرون" في المدن الاغريقية أموراً ثلاثة جعلت من الفلسفة نتاجا يونانيا، فيما الفلاسفة غرباء عن بلاد اليونان: إمكانية تشكيل تجمعات طوعية متعارضة مع السلطة الامبراطورية وغير قائمة على المصلحة ؛ لذةُ الشراكة المتماهية مع الصداقة، ولذةُ فض الشراكة المتماهية مع المنافسة ؛ ميلٌ إلى تكوين الآراء وابدائها وتبادلها وإلى التحادث(13) . هذه الأمور الثلاثة هي في خلفية تكوّن الفرق والمذاهب الفلسفية الأولى (الفيثاغورية، مدرسة إيليا...)، لكن لا يمكن لنا فهمها الا على ضوء تحوّلات أساسية حصلت في بعض مدن اليونان في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، ويمكن ادراجها تحت عنوانين كبيرين : الديموقراطية (ببعديها الأساسيين : الحرية والمساواة) والعلمنة (استقلال الفكر عن الدين وسلطاته) .
ليس ممكناً هنا، ولا هو مطلوب أصلا ، الدخول في تفاصيل التحوّلات التي طرأت على الممالك اليونانية، الشبيهة إلى حد كبير بدول الشرق القائمة على ضفاف الأنهر الكبيرة والتي تمحورت الحياة فيها حول القصر الملكي، وأدت تدريجيا، "بين ميقينيا وهوميروس" (14) ، إلى التخفيف من وطأة الماضي على الحاضر، والى إبعاد عالم الأموات عن عالم الأحياء، وابتعاد عالم البشر عن عالم الآلهة (اختفاء وظيفة الملك الالهي) . نكتفي هنا بالكلام على المرحلة اللاحقة، الاكثر حسما، وبالتشديد على أهمية اصلاحات کليستنس (507-508  ق.م)(15) ودورها الاساسي في إرساء مبدأ "الأيزونوميا" (ایزوي : المتساوون ؛ نوموس: القانون) ، أي المبدأ القائل بتساوي جميع المواطنين في ممارسة السلطة السياسية، في مدينة اثينا التي ارتبط اسمها بالفلسفة وخطت بهذه الأخيرة خطوات لا مثيل لها في السابق... يظهر الكلام على هذه الإصلاحات ترابط مسألتين اثنتين : فصل الدين عن السياسة ، من جهة، واعتبار جميع المواطنين متساوين امام القانون ، من جهة ثانية. وينعكس هذا الترابط في ميدانين بالغي الاهمية : الحيّز المديني والروزنامة السنوية .
جاءت اصلاحات کليستنس السياسية بعد اصلاحات صولون الاقتصادية (حلّ مشكلة الديون وتوزيع الأراضي) وأفضت إلى إدخال السياسة إلى حياة اثينا الاجتماعية من الباب الواسع . حاول المُصلح الاثيني معالجة المشكلة الآتية : كيف يمكن خلق نظام يسمح بتوحيد الجماعات الانسانية التي تفرّقها اوضاع اجتماعية وعائلية وجغرافية ودينية متباينة ؟ ما الوسيلة لانتزاع الأفراد من ولاءآتهم الطبيعية والتقليدية وربطهم بمدينة متجانسة يتساوی مواطنوها ويساهمون جماعيا في ادارة شؤونها العامة ؟ واستنبط أن الحل هو في ايجاد مؤسسات ديموقراطية يُغني عملُها المنتظم عن اللجوء إلى عبقرية فذة (الطورانوس او الطاغية) كلما تأزمت اوضاع المدينة، وإلى تحويل الفرد إلى مواطن يوجّه افضل ما فيه للحياة العامة .
أدّت إصلاحات کليستنس الى تغيير جذري في النظرة إلى الحيّز المديني. لم يعد تنظيم "البولِس" (المدينة) نتيجة الانتماء الى عشائر، قائمة على صلة الدم، بل أصبح نتيجة التوّزع على اماكن . فالمجموعات والوحدات الادارية وقائع ترتسم على خريطة. وفي وسط هذه الخريطة تقع المدينة حيث تتمثل المجموعات كلها. وفي وسط المدينة تقوم "الأغورا " (الساحة العامة) حيث يجتمع ممثلو الجماعات (مجلس الخمسمئة) وتُبحث سياسة المدينة، الداخلية والخارجية، وتُقرر. كان للأغوار قبل کلیستنس مغزی ديني كوني، اذ انها كانت مکان ارتباط المدينة بالأرض. مع کليستنس، أصبح هذا المغزى ثانوياً، دون أن يزول، واصبح للاغورا مغزی سیاسي، فهي نتيجة اختيار بشري : جميع اقسام المدينة تتعادل بالنسبة لهذا المركز، وتتساوى امامه. لم تَعُد الكهنوتية نفسها تقتصر على بعض العشائر ("جيني")، بل امسى الكاهنُ موظفاً يختار من الجسم المديني. حصل، نتيجة ذلك، انقلاب في مواقع قوى الدين والسياسة : "بينما كان الحُكم والسياسية، في دول الشرق الأدنى، من وظائف التنظيم الديني، كان الدين ، عند الاغريق والرومان، من وظائف التنظيم السياسي" (م. فينلي) (16).
وقُسمت السنة إلى شهور عشرة، تقيّدا بعدد المجموعات، مما أتاح لممثلي كل مجموعة رئاسة المجلس مدة شهر. واعتمد الرقم 10 (عدد المجموعات) لا 12 (عدد الآلهة) في التقسيمات وذلك تجاوبا مع انتشار العملة (17) وفي سبيل تسهيل الحسابات.

                        *   *    *

يقول هيغل : "إن ظهور الفكر مرتبط تاريخيا بتفتّح الحرية السياسية " (18). إن ما رسمته مدن اليونان الديموقراطية (19) هو الاطار العام الذي جعل الفلسفة ممكنة، لا بل مطلوبة، وهو ما أعطى الفيلسوف "وسطه" و "محيطه". لقد خرجت الآراء في الحياة والموت، والفرد والجماعة ، والكون والألوهة، من سلطة احتكار فئة الكتبة العاملة في خدمة السلطان واصبحت من حق كل مواطن حر : للناس الحق في ابداء رأيهم في أي مسألة نظرية كما لهم الحق في المشاركة في الحياة السياسية والقرارات المصيرية، وهم متساوون في هذا الحقّ لا يفرق بينهم وازع يستمد سلطته من رمزية لا سياسية أو من تصنيف غير ديموقراطي. وما ساهم في ايجاد هذا الجو المؤاتي للفلسفة هيمنة العبارة الشفوية في حياة الاغريق الاجتماعية(20)، وتبسيط نظام الكتابة عما كان عليه عند البابليين والمصريين ، وذلك على طريقة الأبجدية الفينيقية ، مما جعل من الكتابة وسيلة من وسائل النقاش العلني، ونظّم المدينة على أساس دنیوي جديد . "بالفعل، سيناقش اناکسیمندرس اراء طاليس، واناکسیمنس اراء اناکسیمندرس، وعبر هذه النقاشات والمعادلات سیتکوّن میدان تاريخ الفلسفة الخاص" (21).

لم ينجز الاغريق نظام الحرية التام، فأثينا نفسها قامت على العبودية (22) وبقي حق المشاركة في الهيئات العامة محصورا بالاحرار الذكور وحدهم، دون النساء والاغراب والعبيد. كذلك بقي فصل الدين عن الدولة في أطر محددة، مما جعل المؤرخين شديدي الحذر في استخدام عبارة "العلمنة" في كلامهم على اصلاحات کلیستنس (23). لكن الديموقراطية اليونانية استطاعت ، رغم هناتها الكبيرة والصغيرة، إيجاد الجو الصالح للفلسفة.

ما الذي ميّز باختصار الفلسفة اليونانية ، وما الذي جعل البعض يرى لها موقع حجر الأساس في بناء مفهوم "الغرب"؟ إنها : دراسة الطبيعة دراسة تخلو من السحر والإسقاطات الإنسانية والإلهية، دراسة تعلو عن الحاجات المباشرة، وتُدخل الظواهر في مفاهیم ثابتة ودقيقة ومجردة (الفلاسفة الايونيون)؛ افتراض أهمية النماذج الرياضية، من حيث هي انتاجات عقلية محضة، في فك طلاسم الوجود (المدرسة الفيثاغورية)؛ العودة إلى العقل الدارس بما هو مسعی مطلق الى التوحيد والتفسير والتأسيس (الفلاسفة الإيليون)؛ التركيز على الانسان واستخراج الاسئلة البنيوية الكامنة وراء الآراء السائدة والمتغيرة في مجتمع متبدل ومناقشتها وبلورتها لتوجيه الفرد في حياته (سقراط)؛ توحيد جميع المحاولات السابقة في مشروع يُدخل الوجود والموجودات كلها في شبكة المفاهیم العقلية، بعد بلورة الاسئلة المناسبة وطرحها، ويعرّف العلل والمبادىء الأولى، ويضع أسس واضحة للاخلاق والسياسة (افلاطون، ارسطو). الكينونة ، الكائنات، الشمول، الكلية ، العقل، التساؤل، المفاهيم ، أبوة العلوم الأولى : هذا ما يوجز فلسفة الاغريق . ليس غريبا أذن أن يرفض هيغل – "الأول في ادراك فلسفة اليونان ككلية وفي ادراك هذه الكلية فلسفياً "(24) –اعتبار الفكر الهندي، على سبيل المثال، فلسفة لأنه كتلتان لا علاقة بينهما: من جهة، مبادىء مجردة لا يدرك العقل عنها شيئا ولا يرى" الحدس فيها شيئا" (الواحد غير المجسد، الجوهر الابدي الهادىء والهائل الامتداد ، التأمل الذاتي الذي لا يعرف له نظير، اسم الله الصوفي المكرر إلى ما لا نهاية له...)؛ ومن وجهة ثانية، قدر كبير من التفاصيل "التافهة" والشعائر الغريبة وتقنيات ضبط الجسد والتنفس والحواس ...(25) .
                                          -2-
                    
ولدت الفلسفة من الديمقراطية ومعها. لكن المواجهة بينهما لم تتأخر كثيرا، وأخذت شكلاً احتفالياً ومأساوياً في آن، تجلّى في محاكمة سقراط(26) وإدانته، وإعدامه. لم تأتِ إدانة "آخر الفلاسفة المواطنين"(27) من خارج النظام الديمقراطي، فهيئة المحكمة التي حاكمته تشكّلت من خمسمئة مواطن ومواطن إختيروا بالقرعة(28) من أصل ۹۰۰۰ متطوع للاشتراك في الهيئة . جاءت النتيجة بأغلبية ضئيلة (۲۸۱ مع الإدانة و۲۲۰ ضدها). و"دفاع سقراط" الشهير واجه، بصورة من الصور، "دفاع" اثينا عن نفسها: خافت المدينة، التي كانت تجتاز ظروفاً تاريخية صعبة ، على مصيرها من فقدان نخبها الحيّة نتيجة تتلمذهم على المعلمين الجدد (سقراط والسفسطائيين)، ولم تكن مخطئة كلية في إدانة فيلسوف لا يفند رأياً باسم رأي آخر، بل يدين الآراء ("دوکسا") كلها، ويعلّق سريانها، ويرى أن المدافعين عنها لا يدرون ما يقولون. يفترض النظام الديمقراطي تبني المواطنين لآراء معينة وتبادلهم إياها والوصول إلى رأي مشترك، لا رفض كل ما هو رأي على انه وهم، والمفاخرة بالتمايز من الاخرين بإدراك الجهل الذاتي .
طرح موت سقراط على اتباعه سؤالا مهماً : ما موقع الفيلسوف في المجتمع؟ وكانت اجابة افلاطون، ابرز أتباع المعلم، عن السؤال مزدوجة : الخروج من المواطنية العادية و من العمل في اطار سياسات "فسدت تماما كلها" والتوجه إلى إنشاء النخبة الكفيلة بالإصلاح؛ التأكيد على أن لا مكان للفيلسوف في المدينة غير موقع السلطة : "فأخذتُ أثني على الفلسفة الحقيقية وأجاهرُ بانها وحدها قادرة على ان ترينا الطريق إلى العدالة في الحياة الاجتماعية والفردية . وعليه لن تنجو البشرية من ويلاتها ما لم تصل الى الحكم ذرية الفلاسفة او يتعلم الحكام الفلسفة الحقيقية "(30). كان خیار افلاطون  حاسماً في تاريخ الغرب لما فيه من ابعاد مختلفة: الانتقال من عبارة الفيلسوف "المحب للحكمة" الى عبارة "الفلسفة" أي لمنظومة المعرفية المستقلة ؛ تأكيد وصاية الفلسفة هذه على المجتمع بأسره باسم قيمٍ (العدالة، العلم..) أكثر جذرية من القيم السائدة فيه ، مع ما يمليه ذلك من اعادة النظر بالمساواة و"العلمنة" ؛ التأكيد على قيام تراتبية اجتماعية جديدة على قاعدة درجات المعرفة (والزهد)؛ إدخال السياسة في رؤية كونية ولاهوتية مبنية على مبادىء العقل؛ إنشاء معهد التعليم العالي الأول في تاريخ الغرب، الاكاديمية (31)، لتأهيل الشبيبة للمعرفة والحكم؛ مراقبة موقع السلطة السياسية واعتباره موقع الفيلسوف الطبيعي...(32)

بقيت ممارسة السلطة تراود أحلام الفلاسفة، لكن الفلسفة تمكنت من ارساء ذاتها في موقعين اثنين : موقع نظري، له جلال العقل والشمول، وسلطة الاشراف على المعارف والممارسات كافة ونقدها، وموقع تعليمي يؤمّن استمرارية المنظومة الفكرية عبر المؤسسة أو المؤسسات التي تنشرها. ونرى اليوم أشکال هذا الموقع المعاصرة في الصف الثانوي النهائي (مادة الفلسفة) وفي الجامعة (اهم المؤلفات الفلسفية هي، منذ ما يزيد على القرن أو ربما القرنین، اطروحات دكتوراه، أو كتابات اساتذة يعلّمون في الجامعات او يبحثون في اطارها: كنط، هيغل، برغسون، هيدغر، فيتغنشتاين...) أما ما بقي في أساس الفلسفة كممارسة متجددة، عبر مراحل التاريخ كافة، وعند النهوض من الكبوات الفكرية الطويلة، فهو الحرية. الحرية هي ما جعل ارسطو يفضّل "الحقيقة" علی "الصداقة"، رغم تقديره للاثنتين (33)، في تقييمه لفلسفة معلمه افلاطون. والحرية هي ما أتاح للفلاسفة الخروج، لا على السلطات الدينية والزمنية فحسب(34)، بل على سلطة من سبقهم من الفلاسفة، واعادة النظر الدائمة بأسس المعرفة والكينونة. رصَدَ كبار الفلاسفة التحولات العلمية المهمة (ولادة الفيزياء الرياضية واكتشاف قوانين الجاذبية العامة في القرن السابع عشر، ازدهار علوم الحياة في القرن التاسع عشر...). والتغيرات السياسية الكبيرة (الثورة الفرنسية ، ولادة الدولة المعاصرة، صعود الطبقة العاملة )، وكان لانتماء كل منهم إلى زمانه دورٌ مهمٌ في مراجعة مسلمات السلف، وفي فتح نافذة جديدة على الكينونة والكائنات. لكن الحرية وحدها اتاحت لهم "الثورات" الفلسفية. وتكوّن من مجموع المقالات الفلسفية، من طاليس الى يومنا هذا، بانتظار مستقبل لن يبخل بالجديد لعدم زوال الحرية منه، "اغورا "تتواجه فيها شبكات المفاهيم وانماط طرح المسائل. تخلو الساحة العامة هذه من العنف (35)، ولا يحتكم الحوار الدائم القائم بين اركانها (36) إلا الى الحجج والحجج المضادة، أي الى العقل والعقل نفسه يعيد دائما النظر في ذاته ويُغنيها.

يرسم ما سبق صورة لا تخلو من المثالية، إن لم تكن المثالية بالذات، عن الغرب بما هو فلسفة، والفلسفة ماهي غرب : هما الساحة العامة لحرية الفكر والحوار الانساني العام. هذه الساحة قابلة للتوسّع في كل الاتجاهات. جغرافيا، بالانفتاح على الحضارات الاخرى في اطار الحوار الإنساني الشامل(37) وضرورة الوصول إلى الكلية الجامعة. تاريخيا(38)، بالمسعى اللامتناهي الحامل للحرية في طيّاته، المشجّع عليها، المتغذي منها. فكريا، بالدعوة الدائمة إلى النقد، وتفكيك الأوهام، واكتشاف المسلمات الخفية، والوصول إلى منطلقات أكثر جذرية. وهكذا يكون توسيع الساحة الغربية تارة بتعميق الذات، وطوراً بملامسة حدودها.
ما يغيب عن هذه الصورة لاتمام مثاليتها هو تعيين دور الفلسفة في اساس الممارسات التي رأى فيها "الغرب" كبرى منجزاته، أي العلوم. يقول هوسرل أن "الموقف" من "العالم المحيط" الذي وضعت الفلسفة اليونانية مدماكه، وبدأ "باكراً" "بالتفرّع" إلى علوم وضعية "طبقا لاشكال الكينونة ومناطقها "(39) تميز "أصلا" بأنه "علم كلي، علم كل ما في العالم، علم الوحدة الشاملة للكائن كله "(40). الموقف الفلسفي هذا مخالف للموقف الإنساني "الطبيعي"(41) المتعامل مع "العالم المحيط" انطلاقاً من الرغبات والمصالح والاهداف العملية . "تلتقطُ الانسانَ رغبةٌ في الاهتمام بالعالم ومعرفته تحيد عن المصالح العملية كلها، وتجعله، في دائرة نشاط معرفته المغلقة والاوقات المخصصة لها، منتجاً النظرية الخالصة وحدها، وغير راغب في أي شيء سواها. بكلام آخر، يصبح الانسانُ مراقباً مُنَزّهاً، نظرةً ملقاة على العالم، فيلسوفاً"(42). العلوم كلها إذا، بما هي نظرية خالصة Theoria لا تحقق إلا المعرفة، ولا تسعى إلا اليها، مَدينَةً للفلسفة و"للموقف" الفلسفي بوجودها وجوهرها. وانتشارُ الفلسفة، وتمدّدها، في العلوم الجديدة، يُبقي لهذه العلوم سمات المعرفة الأم : تحقيقُ انجازات لا تسقط مع الزمن وصالحة لبناء الجميع عليها وتوسيعها ؛ الطابع غير المشروط للحقيقة والمستقل عن الرغبات والحاجات ؛ الطابع الفكري ideal للمعرفة نتيجة التبادل الدائم بين الباحثين للوصول اليها؛ الأفق اللامتناهي للبحث العلمي في المواضيع كافة وفي كل موضوع من المواضيع على حدة.(43)


يُظهر الانتقال من محاضرة هوسرل أزمة الانسانية الأوروبية والفلسفة  إلى نصوص هيدغر(44) عن "التقنية" و "الميتافيزيقا" و "الغرب" قبول الثاني بمنطلقات الأول (مركزية الفلسفة اليونانية في مفهوم "الغرب"، العلاقة العضوية بين الميتافيزيقا والعلوم الوضعية)(45) تمهيدا للانقلاب على نظريته انقلاباً كليا لجهتي التوصيف والتقويم. يقوم التحوّل بداية بقلبِ العلاقة بين العلم والتقنية. ففي حين رأی هوسرل في التقنية(45)، على خطی سائر المفكرين، مرحلة لاحقة وتابعة للمعرفة العلمية الخالصة، رأی هيدغر في العلم ذاته بعدا تقنيا، ورَفَضَ تاليا مقولة المعرفة الخالصة التي هي، في عرف هوسرل، سمة الفلسفة و"الغرب". العلوم المعاصرة، بما في ذلك الفيزياء النظرية الخالصة، تُخطِر stell الطبيعة(46) " لإظهار ذاتها كمجموعة من القوى يمكن حسبانها والتكهّن بها "(47) و ب "تقديم طاقة يمكن استخراجها وتخزينها "(47). يخرج هيدغر من "التصور الأداتي والأنتروبولوجي"(48) للتقنية – من حيث هي وسيلة لتحقيق غاية– إلى تصور جديد هو "جوهر التقنية المعاصرة"، ويجمع في عبارة واحدة Ge-stell(49)  كل ما له علاقة باستثارة الانسان للطبيعة وتحدّيها. إن مدلولات الافعال التي مصدرها Stellen هي الآتية: بيّن، تمثّل، طارد، ارتكب، أنذر، استجوب... التقنية المعاصرة هي ، بمعنی ما، كل ما يقوم به الانسان لأخراج الطبيعة عن طورها، وتمثّلها(ذهنياً)، واستجوابها، وتوجيه الانذارات اليها، واخضاعها لارادته وأوامره. لكن هذه الرؤية للامور احادية الجانب ، اذ ان الانسان مستجوبٌ ومأمورٌ ومستثار ... في اطار العملية ذاتها .

يوّسع هيدغر مفهوم التقنية "ليشمل ميادين الكائن كلها...: الطبيعة المموضعة، الثقافة التي أُبقي على حركتها، السياسة الموَّجهة، المُثل التي تم تنصيبها عاليا "(50). يُظهر هذا التوّسع قدرة "مشيئة المشيئة" (51) على فرض سيطرتها على القطاعات كافة، مما يتيح للفيلسوف القول إن "التقنية"، في معناها الأكثر جوهرية "مساوية لاكتمال الميتافيزيقا" (52) وانتهائها وتحقيقها. يجد "جوهر التقنية المعاصرة" في الميتافيزيقا اليونانية، أصله ، وهو بدوره يقود هذا الأصل إلى اكتماله. وليس في الأمر ما يُفرح، إذ إن "نسيان الكينونة" ، ونسیان "الاختلاف بين الكائن والكينونة" ، صار، مع سيطرة التقنية على الارض جمعاء، تاماً.


-3-
بدأت رحلتنا، في مساءلة العلاقة بين الفلسفة والغرب، من الحرية والحوار العقلاني، وانتهت الى الطاغوت الغربي (53) أي إلى السيطرة التامة (او مشروع السيطرة التامة) على الكائنات كلها، وتحدّي الطبيعة وتحويلها إلى ما هو محسوب و مُتوَقع ومصدراً للطاقة  التحويلية والتغييرية . وفي الانتقال من وجه من وجوه "الغرب" إلى الوجه الاخر، مع ما يحمله الوجه الثاني من عنف يطال الجميع، من هم خارج "الغرب"(54) ومن هم داخله، مررنا بارادة الفلسفة إعادة تنظيم المجتمع على أسس العدالة . لكن المرحلة الناقصة في ترحالنا تحمل اسم مارکس، وهي موجودة في قلب شبكة واسعة من المسائل والمفاهيم تناولناها إلى هذا المدى او ذاك. حمل المفكر الشيوعي همَّ الفلسفة بقوة (55)، ولو بدا أنه رسم لها موقعا ثانويا كواحدة من بنى المجتمع الفوقية، وربطها بالطبقة الاجتماعية التي لها المصلحة في تحقيقها(أي الفلسفة)، والقدرة على ذلك. وتثير اليوم الأنظمة التي قامت على اسمه، بعد فشلها وانهيارها، أوسع الجدالات إن لجهة "تنمية قوى الإنتاج" (السيطرة على الطبيعة) دون رادع، او لجهة قدرة الإرادة والتخطيط على تنظيم المجتمع تنظيما كليا من دون القضاء عليه.

ختاما ، ما "الغرب؟" السؤال مربك ببساطته، ويتطلب لبلوغ عتبته، ارتقاء درجتين. الأولى : تعداد عناصر "الغرب" دون المفاضلة بينها أو تركيبها في وحدة عضوية. الثانية : تحديد المرجع الصالح القادر على الخوض في مسألة التعريف انطلاقا من العناصر  الواردة سابقا .
ما المقصود بعناصر "الغرب" ؟ أهي العناصر المكوّنة له أم الناجمة عنه؟ هل تشكل الحدود الجغرافية الإطار الحصري لهذه العناصر؟ "الغرب" تشكيلة ثقافية تلاقت أو تتلاقى مع منطقة جغرافية دون التماهي معها، وتتميز بقدرتها على توسيع دينامياتها الداخلية افقياً ونشرها(56). وما العناصر "المكوّنة" إلا ما تراكَمَ تاريخيا واستوطن جغرافيا وما لا يمكن لنا، من موقعنا الحالي، تصوّر الغرب بدونه: الفلسفة؛ العلوم؛ تقنيات استخدام الطبيعة؛ دولة القانون الديمقراطية والمدنية؛ شرعة حقوق الانسان؛ جهاز الدولة من حيث هو ادارة عصرية عقلانية؛ الرأسمالية بأوجهها كلها: الانتاج والاستهلاك والتبادل والتوزيع ؛ دينامية التوسّع إلى ما لا نهاية له... هذه العناصر غير متجانسة في هويتها، وفي وضعها الواحد إلى جانب الاخر شيءٌ من الغرابة. ويحتاج كل عنصر منها إلى التعريف والتوضيح. كما إن حصرها لا يخلو من الموقف المسبق. فلو طرحنا، على سبيل المثال، السؤال الآتي : هل المسيحية عنصر مكوّن من عناصر الغرب؟ قادنا الجواب إلى الدخول في متاهات واسعة .

تُضاف إلى ما سبق مسائل عدة : ما مدى تنافر العناصر المذكورة ، وما مدى انسجامها في الواقع والنظرية ؟ كيف يمكن ترتيبها من حيث الأهمية؟ كيف يمكن توزيعها بين اسباب ونتائج؟ ما موقع ما خفي عن اللائحة وتواجد في معظم المكوّنات مثل الحرية والعقل؟ تقودنا هذه الأمور إلى المسألة الثانية : من يعرّف "الغرب"؟ إن طبيعة المشاكل وحجمها وتنوعها تودي إلى جواب سریع : يحتاج تعريف الغرب إلى منظومة معرفية تتضافر فيها جهود علوم إنسانية عدة . لكن حدود هذه المنظومة معروفة سلفا : من يعرّف الفلسفة والعلوم والحرية والعقل...؟ أوليس ثمة خوف ، في اطار هكذا منظومة، من اختفاء المحتوى والاساس في اشكال الصيرورة الاجتماعية وظروفها (على نمط اختفاء مسألة ماهيةالفن في الكلام على استقبال الطبقات الاجتماعية المختلفة له) ؟ أولا تتطلب المواضيع المطروحة تقییما فلسفياً وخيارات عملية لانها تتوجه نحو مستقبل مفتوح ولو جزئيا : القبول بالغرب أو الخروج عنه او تخطيه او تعديل هذا أو ذاك من أشكاله؟

أخيراً، أوليست العلوم الانسانية ذاتها المنوط بها التعريف والتفسير، "احتضار الغرب"، كما صاغ ذلك مرلو بونتي في عبارة تثير الدهشة بداية ؟

الغرب "مفهوم فلسفي تاريخي" (هوسرل) يتطلب لادراكه وتخطيه "شعبا"(57) فلسفياً جديداً متحاوراً مع فلاسفة الإغريق وفلاسفة الدولة الديموقراطية، ولا يقلّ عنهم ابداعاً .

كانون الثاني ۱۹۹۹                     









الهوامش

1-   ما الفلسفة؟ محاضرة ألقاها مارتن هيدغر عام 1955 في مقاطعة النورماندي (فرنسا) ونقلها إلى الفرنسية مفكران قريبان منه : كوستاس أکسیلوس و جان بوفريه . راجع نص الترجمة الفرنسية في
Martin Heidegger : Questions II, Gallimard, 1968, pp. 9-40
2- نجد تعريبا لنص المحاضرة عن الأصل الألماني قام به د. جورج كتورة وراجعه د. جورج زيناتي في مجلة العرب والفكر العالمي ، العدد 4 خريف 1988، الصفحات 22-33.
3- Questions II ، الصفحة 15.
4- نستخدم هنا عبارة شارل مالك "الظهورية" لترجمة Phénoménologie . راجع شارل مالك : المقدمة ، دار النهار للنشر ، بيروت .

5- راجع محاضرة  أزمة الإنسانية الأوروبية والفلسفة  الملقاة في فيينا عام ۱۹۳۰ و الملحقة بالكتاب الآتي:
Edmund Husserl: La Crise des sciences européennes et la phénoménologie transcendantale, Gallimard, 1976, p 352.
6-Leçons sur l’Histoire de la philosophie  T.II, Gallimard, 1954, pp 20-21
يعود ارتباك النص الى جمعه من مدوّنات الطلاب ونشره بعد وفاة المعلم .
7- نشر هيدغر مؤلفَه الرئيسي الكينونة والزمن عام 1927، وأخذ تفكيره نحوا جديدا (Die Kehre) في عام 1930 .إحتلت مسألة التقنية وعلاقتها الجوهرية بالفلسفة والغرب، حيزاً كبيراً من تفكيره انطلاقاً من الأعوام 1938-1940.
8- Nietzsche: la Naissance de la philosophie à l'époque de la tragédie grecque
(1875), (8)traduction G. Bianquis, Gallimard, coll. Idées, pp. 30-31.
9-M. Hulin : Hegel et l'Orient, Vrin, 1979, p. 67.
نجد في الصفحات 69-62 من هذا المؤلف عرض للمشكلات الكبيرة التي تعترض هيغل في تصنيف "الشرق".
 10- مؤلف نيتشه المذكور، ص 27 .
11- حول التواصل والانقطاع بين الخرافة البابلية والفلسفة اليونانية راجع :
J.P. Vernant : Mythe et pensée chez les grecs (2 vol.), Maspero, 1965 .
وعلى وجه الخصوص الصفحات 171 - 184في الجزء الأول و 95 - 124 في الجزء الثاني . راجع ايضا:
P . M . Cornford : Principium Sapientiae . The Origins of Greek philosophical
Thought, Oxford, 1952.
 12- نجد مجموع النصوص اليونانية والرومانية المتوفرة عن طاليس، ومنها نص هيرودوتس وديوجين ليرس التي تؤكد تحدّر طاليس من عائلة فينيقية نبيلة ترقى إلى قدموس، في
Les écoles présocratiques . Edition établie par J.P. Dumont, Gallimard, coll. Folio Essais, 1991, pp. 11-31.
13-G. Deleuze. F. Guattari : Qu'est-ce que la philosophie ? Ed. de Minuit, 1991, pp. 83-84.
14-  المصدر المذكور ، 85-84 .
15- اشارة الى عنوان کتاب 1958 , T.B.L . Webster: From Mycenae to Homer , London   
نجد ملخصاً واضحاً عن هذه التحولات في كتاب:
J.P. Vernant : Les origines de la pensée grecque, PUF, 1961; (4ème édition, 1981:
pp. )5-43)
16-  حول اصلاحات کليستنس راجع:
P. Lévêque et P. Vidal-Naquet : Clisthène l'Athénien , Paris, Les Belles Lettres, 1964.
 J.P. Vernant : Mythe et Pensée..., I, pp. 207-229.
17-  عبارة فينلي Finley واردة في .211 . op . cit , I , p
18- النقد بما هو مرادف عام لجميع البضائع تقوم الدولة على اصداره و كفالته اختراع يوناني (مملكة ليديا في آسيا الصغرى). لعب هذا الاختراع دورا كبيرا في توسيع حلقة التجارة وأدّى إلى نتائج اجتماعية مهمة . وقد رأى المؤرخ البريطاني الماركسي جورج طومسون في المفاهيم الفلسفية التي توحّد الاشياء (الوجود، الماهية، الجوهر) انعكاساً للعملة الموحّدة للبضائع .
George Thomson : The First Philosophers, London, 1955; (traduction française d'après la troisième édition revue, Editions sociales, 1973).

19- Hegel : op. cit., T.II, p. 1

20- لم تساهم مدن اليونان كلها في تاريخ الفلسفة، بل ساهمت فيه المدن الديمقراطية وحدها. اسبرطة، على سبيل المثال، ورغم اناقة لسانها اليوناني (اللاكونيزين)، لم تعطِ أي فيلسوف. راجع في هذه المسألة نقد کاستوريادس لهيدغر :
C. Castoriadis : Le Monde morcelé, Seuil, 1990, pp. 227-229.
21- راجع:
Moses I. Finley: Démocratie antique et démocratie moderne , (tr. française de :  
Democracy , Ancient and Modern) Petite Bibliothèque Payot,.
افلاطون نفسه أبدی حذره من الكتب (فيدرس،274-278) وترك لنا فلسفته على صورة محاورات .
22-Vernant : Mythe et pensée… , I, p 178.
23- يقول فنلي (في المؤلف المذكور سابقا ، ص ۱۱۰: "العبودية والثقافة اليونانية في أفضل ما أنجزته مرتبطان ارتباطاً يصعب فصله ".
24- Vernant : Mythe et pensée.., I, p. 210-211.
حول الدين اليوناني راجع    Moses I.Finley et Cyril Bailey : L ' héritage de la Grèce  et de Rome, Robert Laffont, 1992. pp. 20-22                                                               
         مذكور سابقاً)                  . 139 - 140 : démocratice antique      ا   Moses  

25- Heidegger : Hegel et les Grecs in Questions II, p. 46-47.
         100 - 176 .pp (مذكور سابقا) ,
  26- Hegel : Leçons . . . , II
        أنظر أيضاً
Merleau-Ponty: Partout et nulle part, in Eloge de la philosophie et autres essais,
coll. Idées , Gallimard, 1965,
خصوصا الصفحات - 200185
27- جرت المحاكمة عام 399 ق.م بعد قيام مواطنين اثينيين باتهام سقراط بتهمتي "إفساد الشبيبة وشتم الآلهة".
راجع عن المحاكمة، الى نصوص افلاطون واكزينوفون الكلاسيكية،
Finley: Démocratie…, op. cit, pp. 133-171                          
28- Castoriadis: Le Monde… , op. cit, p. 236
يقيم کستورياديس في المؤلف المذكور مقارنة بين سقراط و افلاطون . الأول مواطن ناقش مع المواطنين الاخرين في الساحة العامة، وله زوجة وأولاد، وساهم في ثلاث من حملات اثينا العسكرية، وكانت له رئاسة المدينة في أحد الأيام عملا بنظام المداورة . الثاني انسحب من الحياة العامة، وأسس الأكاديمية، ولم يعرف له عائلة، ولم يعرف عنه المساهمة في حملات عسكرية أو الاضطلاع بمسؤوليات سياسية. وأخيرا لا آخرا، "نجح" أفلاطون " في فرض هذه الصورة على الأجيال اللاحقة : سياسيو اثينا ، في حواراته ، ديماغوجيون، ومفكروها سفسطائيون (بالمعنى الذي فرضه)، وشعراؤها مفسدون للمدينة، وشعبها جمعٌ دنيء مستسلم للانفعالات والأوهام" (ص 107).
29- تعتمد الديمقراطية اليونانية نظام القرعة، لا نظام الانتخاب. هذا ويرى ارسطو في كتاب السياسة (4، 1300ب 4-5) ان الانتخاب من سمات النظام الارستوقراطي لا الديمقراطي.
30- أفلاطون : الرسالة السابعة والترجمة مأخوذة عن جيروم غيث : افلاطون، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1982، ص16)؛ أنظر كذلك الجمهورية، 473 g-h.
 31- أسس افلاطون الأكاديمية بعد رحلته الأولى إلى صقلية (387ق.م)، وحازت نجاحا كبيرا، وأمّها "الطلاب" من انحاء اليونان كافة، وإستوحيت مبادؤها في العديد من دساتير المدن. استمرت الاكاديمية في عملها حتى العام ۵۲۹ بعد الميلاد، وأقفلت يومها بأمر من الامبراطور البيزنطي يوستينيانوس .
32- أنظر ,Karl Popper
                   La société ouverte et ses ennemis , T .I. , L' ascendant de Platon , Seuil
Paris, 1979, pp. 116-129.
33- إذا كانت الحقيقة والصداقة عزيزتين على قلبي، فإني مضطر لتفضيل الأولى على الثانية: (الاخلاق الى نيقوماخوس، الكتاب الأول، 1096- 11 17) ، حول ""ديمقراطية أرسطو "بالمعنى الاثيني "راجع:
C. Castoriadis : Fait et à faire, Seuil, 1997, pp. 22-26.
34- أُحرِق جيوردانو برونو، ورُمي إسبينوزا بالحرم ، ونُفي كارل ماركس ...
35- حول بداية الفلسفة ونهاية العنف، وتحقق الفلسفة في عالم اللاعنف راجع :
E. Weil : Logique de la philosophie, Paris, Vrin, 1974, pp. 3-33.
36- يؤکد کاستوريادس في كلامه على دور الفلسفة في "تحرر الغرب" من نهاية القرون الوسطى الى اليوم، أن هذا الدور كان في استمرار الحوار والابقاء على الروح النقدية اكثر مما كان في محتوى الفلسفات نفسها : شاركت الفلسفة أحيانا في معارك التحرر، وبقيت غالبا لامبالية تجاهها، ونظرت اليها احيانا نظرة عداء وازدراء . لكن الموقف الغالب بقي ذاته عبر اشکال مختلفة : بناء الأنظمة[الفلسفية] وتقديس الواقع والنظر إلى الجماعة من فوق"237 .p ، المصدر المذكور   Le Monde morcelé
37- ما يسميه مرلو بونتي، بعد هوسرل "فتح المفهوم concept دون هدمه" راجع
    Eloge, op. cit, pp. 195-200
38- رأى هيغل، كما أشرنا الى ذلك سابقاً، في التاريخ ذاته سمة من سمات الغرب.
39- Husserl: La Crise….op, cit, p. 355
40- المؤلف المذكور ، ص 365
41- يطلق هوسرل على هذا الموقف تسمية "الموقف الخرافي الديني"، المؤلف المذكور ص 364.
42- المؤلف المذكور ، ص 365.
43- المؤلف المذكور،ص ص:  372-352
44- "مسألة التقنية" (1953)، "العلم والتأمل" (1953)، "تخطي المتافيزيقا" ( 1936- 1946)
Martin Heidegger : Essais et conférences, Gallimard, 1958, pp. 9-115.
45-  "لا وجود اطلاقاً للعلوم ما لم تسبقها الفلسفة".Heidegger : Questions II , p16           
46- يطلق هوسرل على الممارسة Praxis اسم "الصورة الثالثة للموقف الكلي" ، بعد "الموقفين" "الطبيعي" و"النظري Théorétique "، ويرى فيه جمعا للموقفين الأولين. المرجع المذكور ، 363.
 47- أو تُبلغها أو تُنذِرها او تُرغمها على ...
48-    Heidegger : Essais, ..., op. cit, p. 29.
 49- المؤلف المذكور، ص20 .
50- المؤلف المذكور،ص 10.
51- العبارة اليفة في اللغة الالمانية وتشير الى ما جُمع من عناصر عدة واستخدم في الحياة اليومية : الخزانة، المنصبة ، البرواز ... العبارة مؤلفة من البادئة Ge ولها وظيفة الجمع، وفعل Stellen وله المعاني المذكورة أعلاه. راجع:
J. Taminiaux : L'essence vraie de la technique in Heidegger, L'Herne, 1983, p. 289.
52- Heidegger ;Essais ..., p. 92.
53-  يأخذ هيدغر العبارة من نيتشه، وهي عند الأول مرادفة لمشيئة القدرة...
54- ... "وأن نجعل أنفسنا بذلك سادة الطبيعة ومالكيها " (ديكارت: مقالة الطريقة، القسم السادس).
55- هذا لا يعفينا عن السؤال الآتي : إلى أي مدى يمكن لنا اليوم أن نكون خارج الغرب؟
56-  "لم يقم الفلاسفة الا بتفسير العالم بطرق مختلفة، ولكن المهم هو تغييره". (عن فويرباخ)، 1845.
57- «Seul l'Occident étend et propage ses foyers d'immanence» (Deleuze-Guattari,
op. cit, (TM) p.93)
لكن هذا لا يحول دون لجوء "الغرب" إلى القهر لنشر حركته.
58- 104 - 106 .p ، المؤلف المذكور ، Guattari Deleuze-

Le 15/1/1999