Monday 31 August 2020

بطاقة بريديّة من زحلة صيف 2020

بطاقة بريديّة من زحلة صيف 2020



الصورة للدكتور ريمون خزاقة

ينظر اللبنانيّون إلى زحلة بالكثير من الإعجاب وبشيءٍ من الغيرة. فهي، إلى مزاياها المعروفة، مدينة الشعر وموئل الحرية وواحة النُزهات والمقاهي والملاهي. هي مدينةٌ تنعم بكهرباء دائمة ومياهٍ متوافرة ونظافة قليلة الكلفة نسبيّاً. لكن أهالي زحلة مستاؤون من الأوضاع العامة الاقتصادية والسياسية، ولذلك تعاطفوا بغالبيتهم مع انتفاضة 17 تشرين 2019 ضد الفساد والهدر والعجز، وأمِلوا بسقوط الطبقة الحاكمة وبقيام حكومة قادرة على التغيير، وبتصحيح التمثيل السياسيّ. نزل الزحليّون بزخم في الأيام الأولى للانتفاضة، فتظاهر تلامذة المدارس، وتجمع المحامون أمام قصر العدل، ودعا الأطباء إلى مسيرة من مستشفى قريب إلى بناية المنارة. سلك المحتجّون في الشارع الرئيسي مُنادين بشعارات الثورة هاتفين بها، وتوسَّعوا في حراكهم وصولاً إلى مستديرة المدينة الخارجية (على أوتستراد شتورة بعلبك) حيث وافاهم أهالي بلدات شمال القضاء وجنوبه، أي مواطنون من مختلف الانتماءات السياسيّة والمذهبيّة. نصب بعض الناشطين والجماعات المنظَّمة من المنتفضين خيماً وأكشاكاً حول الساحة، لكن عندما عبَّر حزب الله وحلفاؤه عن استيائهم من انقطاع طريق بيروت بعلبك، ووُجِه هؤلاء المنتفضون بوحشيَّة من القوى المسلحة وأقتُلعت الخيام وهُدمت الأكشاك. أرخى حزب الله بظلاله على الأحداث ولقيَتْ بعض تصريحاته الاستفزازية ردودًا لا تقل عنها عنفًا،  لذا بقي التحفظُ سيدَ الموقف.
تردّد الكثير من الشباب الزحلي إلى بيروت للمشاركة في أيامها الاحتجاجيّة المفصليّة، فساروا في ساحة الشهداء وعلى جسر الرينغ... لم يفوّتوا فرصة محاصرة المجلس النيابي من الاتجاهات كافة منخرطين في صفوف حركة الثورة الرافضة. أما مواقع التواصل الاجتماعيّ فكان الكثير من  الزحليّين مجلّين فيها، وجادلوا أحياناً سكان مدينتهم من أنصار العهد العوني (الذين تظاهروا بدورهم) بسخرية لاذعة، مطلّين على شباب لبنان بأسره، بانين صداقات فايسبوكيّة متعددة المشارب والهويات.
     لم يكن جديدًا على الزحليين اعتماد الشعائر الوطنية اللبنانية والمجاهرة بها، فالعلم اللبناني بيرقهم الوحيد، والنشيد الوطني موضع إجلالهم، والاحتفال بعيد الاستقلال محطة سنوية تضاهي الأعياد الدينية المسيحية. لكن حذرهم من الأحزاب السياسية، العقائدية منها وغير العقائدية، وتلكؤهم عن المشاركة الفاعلة في التحركات الثورية لازمهم إلى حد بعيد. وقد طغى الطابع الشبابيّ بسرعة على الطابع الشعبيّ، كما أنّ حزب "القوات اللبنانية"، أكثر التنظيمات انتشارًا في الأحياء على ما يقال، رفد التحرّك العام بعناصره بدون الإعلان عن ذلك وبدون بروز أي من مسؤوليه على مسرح الأحداث، علمًا أنّ محازبيه عبّروا عن استيائهم من شعار "كلن يعني كلن" بطريقة صريحة لا لبس فيها. كما أنّ الثوّار طردوا في أيام الحراك الأولى مرشحةً تقليدية ومؤيّديها من إحدى المظاهرات مشهّرين بانتهازية خطوتها.
*****
بعد الانكماش الكبير في أعوام الحرب (1975-1990) عرفت زحلة عمرانًا كبيرًا في أعاليها والسهل واكتظّت بالأبنية الحديثة والفيلّات الفخمة، وتوسّع فيها القطاع الصناعي خصوصًا بعد أن ضُمَّت إداريّاً إلى بلديّتها منطقة تعنايل التي تكثر فيها المعامل والمصانع. وتحقّقت الانجازات في القطاع السياحيّ (فنادق، صالات سينما، مقاهٍ...)، لكن الركود الاقتصادي عاد ولازم المدينة طويلًا قبل الانتفاضة، إذ فقدت جزءًا كبيرًا من مناطق محافظة البقاع التي كانت تابعة لها إداريّاً لصالح محافظة بعلبك-الهرمل المُستحدَثة، وخسر الزَّحليّون مواقعهم المُمَيَّزة في دوائر زحلة الحكومية، ثمّ إنّه بات للمحلات التجاريّة ما يماثلها، وللمصارف فروعها، في البلدات المجاورة، ناهيك عن مزاحمة أسواق بيروت القريبة والشديدة الإغراء. وصحيح أنّه بقي لمدارسها ومستشفياتها سمعتها وألقها إلا أنّها لم تعد الوحيدة في المنطقة ولا هي الأفضل تجهيزًا دومًا. وأخيرًا لم يعد الكثير من الزحليّين يفدون إلى مدينتهم إلا بشكل مؤقَّت أو عابر، صيفاً وفي المناسبات. يُضاف كلّ هذا طبعاً إلى الانعكاس الهائل للتراجع الاقتصاديّ العام في البلاد كافة على النشاط الاقتصاديّ المحليّ.
على الصعيد السياسي شهدت المدينة أزمة قيادة عميقة الأبعاد، إذ إنّ الروم الكاثوليك، وهم أصحاب الغالبيّة والموقع الرمزيّ والتاريخيّ  الأبرز في زحلة، "عاصمة الكَثْلَكة" في الشرق، فقدوا المقعدَيْن النيابيَّيْن الإثنين في دائرتها الانتخابيّة  في انتخابات العام 2018، وذلك لصالح بلدات أقلّ حجمًا من حيث العدد (الفائز بالمقعد الأوّل هو من بلدة رياق وينتمي إلى كتلة القوات اللبنانيّة، والفائز الثاني هو صناعيّ من بلدة الفرزل). وهنا لا بدّ من التذكير بأنّه كان للزعامة الزحليّة الكاثوليكيّة، بثنائيّتها أو بفردانيّتها، أرجحيّة دائمة في منطقة البقاع الأوسط وذلك من زمن المتصرفيّة إلى مرحلة الاستقلال مرورًا بفترة الانتداب الفرنسي. وهذه الزعامة هي التي كانت تقود المعارك الانتخابية وتشكّل اللوائح، وهي التي كانت تؤمّن خدمات الدولة لناخبي الدائرة. وفي زمن الحرب وإبّان الوجود السوري، تشكّل مجلس من أساقفة المدينة (الروم الكاثوليك، الموارنة، الروم الأورثوذوكس، السِّرْيان الأورثوذوكس) ولعب دورًا كبيرًا على الصعيد السياسي والخدماتي، لكنه فقَدَ اليوم الكثير من دوره هذا بسبب خلاف أحد الأساقفة مع الكثير من أبناء طائفته.
*****

                  
أَيَّدت زحلة الانتفاضة، لكنها لم تنفتح انفتاحًا كلّيًا على جيرانها بالرغم من المآزق  الاقتصادية المشتركة بين الجميع، ومن عمق الأزمة الحياتيّة، ومن التقارُب المُفتَرض بين أهداف وتطلّعات سائر الفئات والأطراف. سَعَتْ إلى ذلك لكنها لم تستطع الخروج من تقوقعٍ وفوقيةٍ وأعرافٍ تقليدية لازمَتْ معظم أهاليها. هي لم تتوصَّل إلى إنتاج شعارات خاصّة بها تلائم موقعها وتطرح إجاباتٍ وحلولاً لأزماتها المستعصية. لم يبتدع شبابها تنظيمات بمستوى الأحداث الجِسام ولم تتوحَّد نخبها في أطر جديدة مبتكرة، وبالتالي لم تتولَّد من حركتها ورفضها قياداتٌ جديدة لها أفكارها وطروحاتها فظلت الانتفاضة تستقدِم المحاورين والخطباء من خارج، فتوافد للنقاش مقرَّبون من القوات اللبنانيّة وأحد مؤسّسي الكتلة الوطنية الجديدة، وهو من أصل زحليّ... حاولت نخبة خارجة على الأحزاب المسيحيّة التقليديّة القيام بمبادرات جديدة لكنها عادت وانكفأت بالرغم من حسن نواياها وجدية مساعيها. ولم تتمكّن الهيئات القائمة من وضع إطار عام يندمج فيه الشباب الجامعي ويتوحَّد عبره رفاقٌ آتون من أفاق سياسيّة يساريّة ومحافظة يسعون جميعاً للخروج من آفات النظام ومن هول ما أدى إليه.
شارك في تجمعات ساحة زحلة الخارجيّة أعداد كبيرة من شباب البلدات المجاورة، السنّية منها خصوصًا، حتى زَعَمَ كثرٌ أنهم شكلوا فيها الغالبية. أما "ثوّارها" فقد ظلّ حضورهم في احتجاجات البلدات القريبة ضعيفًاً، كما بقيت مساهمات منتفضيها الواسعة في مظاهرات العاصمة فرديّة، فلا تقع فيها على مجموعات حضرتْ جماعاتٍ معاً بل على مثقفين ومواطنين فرادى أو أصدقاء هالهم الفساد المستشري وإفلاس الدولة والزبائنيّة والقمع، فأرادوا التعبير عن غضبهم وآمالهم والمُشاركة في الحراك الثوريّ العام.
لم تتخلَ  المدينة عن أفقها السياسي المحافظ. لكنّها بقيتْ تفتخر بشعاراتها وقيمها الوطنية وزادها اقتناعًا بها انضمامُ المناطق والطوائف كافة إلى السير بهذه الشعارات والدفاع عنها. رأت في الثورة مجالًا لتخطّي الحواجز الطائفية والذهاب إلى لبنان أقوى وأشدّ عافية. انزعجت من قطع الطرقات غير المدروس وغير المبرمج في مَكْسَة وجلالا وسعدنايل... استقلال لبنان هو في طليعة هواجسها، تليه الهموم المعيشية والتخلص من الشِّلّة الحاكمة الفاسدة والمُستتْبَعة الخاضعة. لكن المجهود لبلوغ الأهداف بقي دون جذريَّة هذه الأهداف، ودون حاجتها إلى الابداع في مجالَيْ الفكر والتنظيم، ودون رسم الاستراتيجِيّات المفيدة، ودون التضحيات الكبرى المطلوبة.
إلا أنّ بصمات الانتفاضة، ولو بهتت أحيانًا، لن يُمحى أثرها عن جمهور المدينة!

*****
[نُشرت هذه البطاقة في أطار بطاقات لبنانية من كل المناطق في مؤسسة كارنيجي (ديوان)]

No comments: