قدّم
فارس ساسين، في ندوة نيتشه التي عقدت في كلية الأداب في الجامعة اللبنانية في
البقاع عام 2001، مداخلة شفوية عنوانها: "سيرة ذاتية فلسفية"، نسترجع
هنا خطوطها الكبرى[1].
أما مبرر موضوع المداخلة، في ندوة عن صاحب "غروب الأصنام"، فهو عبارة لميشال
فوكو رأى فيها أن مسيرته الذاتية تلخص بالذهاب من هايدغر الى نيتشه– أي ببلوغ نيتشه بعد العبور بهايدغر، مستفيداً
من الأخير، تاركاً إياه. ومن يقرأ اصلاً مؤلفات هايدغر من مقرراته الجامعية عن
نيتشه في الثلاثينات - وهي تشكل، بلا أدنى ريب، صفحات فلسفية قلّ مثيلها فـي القرن
العشـرين – الى كتاباتـه المتأخـرة مثـل ما يشير إليه التفكير؟ Was
Heisst Denken? (1954) التي يكتفي فيها صاحب الكينونة والزمن
(1927) بالتعليق على بعض عبارات نيتشه والسير في ركابها، يرى أن مسيرة هايدغر
ليست بعيدة جداً، إذا جاز القول، عن مسيرة فوكو: الخروج من هايدغر الدّيان لنيتشه
بما هو فيلسوف "مشيئة القدرة" المجسّدة لـ "نسيان الكينونة"
والمعبّرة عن إرادة السيطرة التقنية على العالم بكليته، إلى هايدغر المنفتح على
نيتشه المفكر والشاعر والعاشق الذي بلوّر خطوات عدة خارج إطار الميتافيزيقا.
أما
المبرر الآخر للمداخلة، فهو إعادة صدور كتاب شارل مالك المقدمة – سيرة ذاتية
فلسفية-، الذي يحثّ كل من يقارب الفلسفة من قريب أو من بعيد على محاولة
استعادة سيرته الفلسفية، لا من قبيل البحث عن الجذور، بل من قبيل اجراء مسح للموقع
الحالي.
بعد
ذلك، تناول البحث أقساما ثلاثة: السنوات الجامعية في بيروت (كليتا الآداب والتربية
في الجامعة اللبنانية، ومدرسة الآداب العليا الواقعة على طريق الشام-بيروت، 1964 –
1969)؛ الماركسية في النظرية والممارسة؛ وأخيراً نيتشه وهايدغر.
1
يخرج
الطالب اللبناني في مطلع الستينات من الدراسة الثانوية شبِقاً إلى سبر أغوار علم
النفس، الفرويدية منها على الأخص. لكن
"الثقافة العامة" أو أل Propédeutique تقرّبه من الفلسفة، فيرى
فيها ما يتعدى علماً يتناول الذاتية ولو بتفصيل لافت ومكرر (العقدة الأودبية)،
ويتوقف عندها دون السعي إلى تخطيها. أما الأساتذة الذين لعبوا دوراً في التنشئة
الفلسفية للمتحدث فهم فريد جبر الذي يدين له
-
بتصنيف الفكر الإسلامي إلى أبواب (اعتماداً على الغزالي وابن خلدون...)
-
وبالتشديد على عبقرية اللغة العربية الخاصة ودورها في بلورة الفكر العربي؛
وجيروم غيث (أستاذ المنطق والإبستمولوجيا
والفلسفة اليونانية) الذي
-
تميز بالصرامة في التفكير
-
والدقة في استجواب الطلاب في الصف
-
والتماهي مع الفلسفة موضوع البحث (فهو أرسطي عند دراسة أرسطو ورواقي عند دراسة
الرواقيين...)،
-
والتشديد على أفلاطون أساساً للفلسفة كلها ومنبعاً لجميع تصوراتها وذلك انطلاقاً
من حرصه التاريخي على إصلاح السياسة الاثينيّة.
ولا ريب أن روح الأب غيث الفلسفية بقيت شفوية إذ
أن كتابه عن أفلاطون (منشورات الجامعة اللبنانية) جاء في العناوين
والتصنيفات دون حيوية التساؤل الخلاّق في صفوف الاجازة.
إضافة
إلى هذين المعلمين، لا بد من ذكر أحد كبار الهيغليين الذي تكرر قدومه في الستينات
إلى بيروت "ليتهجّى" épeler، مع الطلاب، في سهرات طويلة في المركز الثقافي الجامعي CCU الذي أقامه الأباء اليسوعيون في حي البسطة، صفحات كاملة من فنومنولوجيا
الروح (1807) لهيغل مبيناً ثغرات
ترجمة جان هيبوليت للكتاب (إلى الفرنسية)، متخطياً غموض هوامش هذه الترجمة أو
سطحيتها ("توضّح كل ما هو واضح"). هذا الأستاذ هو جوزف جوفانJoseph
Gauvin الذي
كان يقرأ "الفينومينولوجيا" ثلاث مرات في العام.
أما
أمثولات هيغل ""كمربٍ"، لاستخدام عبارة لنيتشه في كلامه على
شوبنهاور، فهي الآتية:
1) تفوّق العبارة على الصمت كما يبين من جدلية
"الهذا" و"الهنا" و "الآن": فالمعرفة التي تظن
نفسها الأكثر ثراءً وصدقاً (اليقين الحسّي) هي، في الحقيقة، الأكثر فقراً
وانعداماً.
2) تفوّق ما نفعله على ما نقوله، ففي الأول
حقيقتنا لا في الثاني.
3) نقد المُباشَرة immediateté والتشديد على ضرورة التوّسط وعلى أهمية المرور بالخطأ والألم في
طريق بلوغ الحق. يتحدث هيغل عن "جِدّ النفي وألمه وصبره وعمله".
4) التمييز بين "تصور التصور"le
concept du concept و "التصور كتصور"Le
concept comme concept .
فنحن نظن أننا نشير إلى حل ما بعد انتقادنا للواقع أو لنظرية ما. ولكننا في
الحقيقة، وقبل مغالبة الصعاب والمرور بالألم والخطأ نبقى عند عنوان فارغ يصلح
شعاراً( هو تصور للتصور) دون أن يكون قد استوعب ما في موضوعه من غنى واكتنزه. عند
هذه المرحلة فقط، يصبح "تصوراً" أي
يكون "التصور كتصور".
5) قلب المعايير بين "الفكر المجرد" و
"الفكر الملموس": الفكر الذي يدّعي القرب من الواقع هو، في الحقيقة،
مجرداً تجريداً تاماً لأنه لا يأخذ بالاعتبار الا أحد أبعاد الواقع؛ أما الفكر
الملموس، فهو الذي يأخذ بالاعتبار أبعاد الواقع كلها وهو المنشود.
6) تفوّق الشمولية على العنصر الفرد، فكل عنصر
من العناصر جزء من تشكيلة عامة هي بدورها
7) محطة من محطات التاريخ الذي تبقى له الشمولية
الكليّة في تحوله "معرفة مطلقة" أي معرفة أداتها ومحرّكها ومادتها
التصوّر.
رأى
بعد ذلك المحاضر أن ثمة مفكرين إثنين لعبا دوراً في تنشئته إلى جانب الذين سبقوا.
جان قال Wahl Jean
الذي
تعلم من كتاباته نشوةَ الكلام على الفلسفة، ففي الحديث عن كبار المفكرين ثمة لذة حسية
مادية هي وحدها الكفيلة بإظهار عشق الفكر الفلسفي وبنقل هذا العشق عبر التعليم إلى
الطلاب. أما أمثولات قال الأخرى كما تظهر خاصة في رسالة في الميتافيزيقا Traité
de Métaphysique
(1968) فهي أهمية مواقف الفلاسفة في معالجة أية مسألة فلسفية. فالمعرفة والعليّة
والحرية والله والتصورات الأخرى... مجموعة من الإشكاليات أوجدها وعالجها كبار
الفلاسفة فكانوا يحلون مشكلاً ليولدوا آخر، وفي آخر المطاف يمكن توزيع الأجابات على
فريقين أو ثلاثة. وقلّما يمكن تخطي الرقم هذا. ومن امثولاته أيضا التشديد على وحدة
تاريخ الفلسفة من طاليس إلى هوايتهيد وسارتر.
أما
المفكر الآخر فهو برغسون الذي قرأ فارس ساسين الطالب مؤلفاته كلها رغم عدم اقتناعه
بالحدس وسيلةً للمعرفة، واقتناعه بالتوسط الكنطي والهيغلي منهجاً. واكثر ما أعجبه
في فلسفة برغسون نظرية الإدراك الحسي التي بلورها المؤلف في الفصل الأول من كتابه المادة والذاكرة (1896) والتي رأى فيها
الطالب أساساً صالحاً لتخطي المثالية والواقعية في نظرية المعرفة. والحنين الذي
مازال يأخذه إلى فلسفة برغسون الدينامية في توسعها المستمر وانتقالها من موضوع إلى
موضوع (المعطيات البديهية للوجدان، دور الجهاز العصبي والدماغ في المعرفة، نظرية
النشوء والارتقاء، سنن المجتمع ومصدرا الأخلاق والدين...) - هذا الحنين له حوافز
في استشهاد هيدغر أربع مرات ببرغسون، وفي قول لويس ألتوسير أن فلسفة سارتر كلها هي
في كنف برغسون، وفي إعجاب ليفي ستروس بميتافيزيقا برغسونية تشبه نظرية هنود أميركا
في الصيرورة، وفي الأبعاد النقدية التفكيكية لفلسفة برغسون (لا في أبعادها
الإيجابية: الحدس والمباشرة)[2].
2
أما
القسم الثاني من العرض، فدار حول الماركسية الذي حمل لواءاها جيل كامل من المثقفين
اللبنانيين والعرب ورأوا فيها النظرية الكفيلة بالقضاء على الاستغلال والتفاوت
الاجتماعي، وبإخراج العالم الثالث والعالم العربي من القهر والدونية على هدى الثورة
البولشفية والصينية، وبإعطاء الإجابة الشافية على أكثر القضايا عدالة وبديهية في
مجالنا العربي يومها: القضية الفلسطينية.
بدت
كتابات غيفارا لجيل الستينات رومنطيقية وأخلاقية، ورسائل ستالين كنسية ودوغماتية. أما
كراريس ماو تسي تونغ، رغم التبسيط أو بسببه – فكان فيها سحر خاص ناجم عن تشديدها
على التناقض غير المنقطع، وعلى تمييزها بين التناقض الأساسي والتناقض الثانوي،
وبين التناقضات داخل الشعب وبين الشعب وأعدائه. كانت كتابات لينين تقهر القارئ لكن
ظهرت فيها الجدية اللازمة للواقعية السياسية (ما العمل؟). أما السؤال
الأساسي للمثقفين فكان في تلك الحقبة: أي ماركس هو الماركس الحقيقي؟ وكانت الإجابة
السرية هو ماركس الشاب (قبل 1845، إضافة إلى البيان الشيوعي والكتابات
السياسية...) فيما كان الجواب العلني أن التراث الشيوعي هو في رأس المال (الجزء
الأول، 1871) والكتابات الاقتصادية، إضافة إلى البيان الشيوعي طبعا .
وما
يبقى اليوم داخل ماركسي الأمس من مبادئ صاحب البيان الشيوعي فهو فتنة الشكل
الأدبي الذي تتصارع فيه وتتآلف صورتا برومثيوس، سارق النار، الطيطان الثائر على
نظام إله الآلهة زوش، والشيطان لوسيفيروس الثائر أبداً على نظام خالقه وعدوه، لأنه
يجسّد كل ما يتوق هو إلى عكسه. وما يبقى أيضاً من إرث ماركس هو تفكيك السماوات
كلها، من آلهة الدين وقصور الفلسفة إلى حياد الدولة فوق المجتمع وموضوعية
الرأسمالية. وما يبقى أخيراً هو نظرية القيمة - العمل التي تشكل مرتكزاً عقلانياً
في عالم ما بعد الحداثة الذي فقد كل ثوابته أو جُلها.
3
تناول
القسم الثالث والأخير من المداخلة علاقة المتحدّث بنيتشه وهايدغر. أخذت العلاقة
بنيتشه أبعادا جديدة[3]
مع مطالعة كتاب جيل دولوز نيتشه والفلسفة (1962) . أظهر دولوز، في إبرازه
لجديد فكر نيتشه، ألا وهو تصورا "القيمة" و "المعنى"، (ليس
المهم صحة فكرة ما، إنما قيمتها في تأكيد الذات أو قمعها أو نفيها...). وبيّن – أو
حاول أن يبين - أن فلسفة الأخير تكملة لنقد كنط، وانطلق من تصميم جينيالوجيا
الأخلاق (1887) الثلاثي (نقد الضغينة، وإدانة الذات، والزهد) ليرسم وحدة فكر
صاحب زرادشت ورفضه الجذري للهيغلية التي تشكل في نفيها ومواجهتها للسيّد رؤية
العبد للأمور، فيما فلسفة نيتشه والسيادة الحقة هي في تأكيد التأكيد. وهكذا كان لكل فكرة من أفكار
نيتشه صدى في الذات وشكّلت دعوى إلى الخروج مما بقي دينياً داخله من المذهبين الماركسي
والفرويدي.
لكن
تعرّف المرُيد، الذي يحاول أن يكون أستاذاً لطلاب صفه، على تفكيك هايدغر لنيتشه
(التصورات الأربعة الرئيسية: مشيئة القدرة، العود الأبدي، العدميّة، الإنسان
المتفوّق)، وإقحامه إياه في رؤية لتاريخ الميتافيزيقا ولتاريخ الغرب من حيث هو
"مشيئة" للسيطرة (" مشيئة المشيئة" ) وتحويل الكائنات إلى
"أشياء" في المشروع الهلامي،
بدا أخّاذاً وعميقاً وفيه كشف لابعاد الأمور لا سابقة له.
لكن
الرؤية المضمنة في مقررات هايدغر (1936-1946) التي باتت تشكل مادة جزئي كتابه نيتشه
(خصوصاً الجزء الثاني) ما لبثت أن انحسرت عن أبعاد نيتشوية تتخطى التفكيك
الهايدغري لجهة الشكل (أسلوب نيتشه) والمضمون وأفاق التفكير. ففي تأويل الكينونة
فسحة للّعب، وفي مشيئة الحقيقة مجازفة ومغامرة، وفي الكلام على الفن، سيد مملكة
الظهور، ميل إلى حماية الإنسان من مشيئة المعرفة غير المحدودة وحراسة للتناهي بما
هو تناهي.
ويبقى
نيتشه مفكر الحداثة وما بعدها الأكثر وجاهة،ً وهو الذي قال: "جاءت سطحية الإغريق
من عمق نظر".
4
لا ريب أن في ما سبق تغافلا عن فيلسوف كبير لعب ويلعب
دورا أساسيا في تمرين الفكر على الجهاد الفلسفي، والعبارة على الصرامة والدقة، ولا
يمكن تجاهله لا صعودا إلى أفلاطون ولا نزولا إلى هايدغر ألا وهو كنط. سئل هايدغر:
أي من الفيلسوفين أكبر، كنط أو هيغل؟ أجاب: هيغل فيلسوف عظيم وضع نظاما ثم كرره في
كل الميادين. كنط ما أن يطرق بابا حتى يبدأ من جديد موجدا المفاهيم الكفيلة بادراك
الميدان المدروس. فلسفته أكثر ابتكارا.
وهكذا جمع كنط أبعاد الفلسفة كلها ولا غنى عن
التعمّق فيه للإبحار في محيط الحكمة.
[1]
أعيدت قراءة هذا النص في حزيران 2014 وأدخلت عليه بعض التصحيحات
الطفيفة وأضيفت إليه الفقرة 4.
[3]
لا بد من الإشارة هنا إلى أستاذ في السوربون ثابر المحدث على حضور أمثولاته
وكانت كلها مخصصة لنيتشة وهايدغر – ومرورا بهما ليبنتز وشوبنهاور – ألا وهو هنري
بيرو Henri Birault. . . كان حديثه شيّقا وموّثقا
وأمثولاته بمنتهى الحيوية.
No comments:
Post a Comment