Thursday 13 June 2019

رواية "ملك الهند" لجبور الدويهي




العقاب المالطي في فلم جون هيوستن المقتبس من رواية داشييل هاميت




سيداتي، سادتي
         الصديق جبور
          أرحب بك في مدينة تزور كل أسبوع - بالأذُن طبعاً - بعضاً من أحيائها وبيوتها، تعرفُ العديد من شخصياتها وحكاياتها، تحبهم، تقارنهم بأبناء بلدتك البلدتين، زغرتا وأهدن ، فنُدخِل أهل التجمعين السكنيين البقاعي والشمالي في مباراة خفّة الروح وسرعة البديهة والتفنن بالسخرية والتشبّث بالعادات والنقمة عليها. نترك الفروسيتين جانباً، ولكل من زحلة وإهدن ميدانها، فنقمةُ الزحليين على يوسف بك كرم، وقد وُعِدوا بنجدته، قائمة وهي من عمر فيلومينا بطلة روايتك الساحرة، وصفةُ السحر تصحّ على الجَدّة والحكاية بمعنيين مختلفين.
          أنت هنا في مدينة لم تُعرف بروائييها رغم اهمية أنطوان معلوف وسمير الحاج شاهين...زحلة مدينة    جَبَلها الشعرُ وعُرفت بشعراء"غووا" و"هدروا" مثل نهرها ونضب النهر وظلوا على غنائيتهم وابداعهم.لكن تُرى حلّت الرواية في الحداثة مكان الشعر فكانت أقرب إلى اكتناه جوهرهذه الحداثة وإلى الإستحواذ على جمهورها وقرائها؟ ليس هنا موقع هذا النقاش. الشعرُ قديمٌ قدمَ الشعوب عبّر عن أفراحها وأتراحها وأحلامها وقادها إلى الإعتزاز والنشوة. بدأ ملحمياً وصار مسرحياً وغنائياً. الرواية- ولا أقول الحكاية التي جايلت الشعر عراقة ولعبت دوراً في ترتيب الأمور وتنسيقها وعرفت في ألف ليلة وليلة العباسية قمةً من قممها- الرواية حديثة ولدت في القرن السادس عشر في قلب الهوّة بين شخصية دون كيخوته ذات البطولات الوهمية ومسار العالم الذي عاصره وعاش هو فيه. ودخلت الرواية بعد ذلك بتقلبات.
          لا تخلو رواية من روايات جبور الدويهي من إشارة أو أكثر إلى الشعر والشعراء، قديمهم والحديث. زهير بن أبي سلمى وسان جون برس. ابراهيم والد زكريا ملكُ الهند حفظ ابياتا لا تحصى بالعربية والفرنسية لهوغو وابي العلاء. وجمعه بزوجته حب الشعر العربي الذي "كان من مصادره الرئيسية في فهم الدنيا وأحوالها". حنين الدويهي إلى الشعر عميق ودفين. لكنه رأى في الرواية، فنها وعالمها، ورصدها للرسم والسينما وابتكارات الحداثة  كافةً، ونثرها الوصفي والحواري، وحبكتها الصارمة على تعدّد موضوعاتها، ما يروي غليله ويرفع تحديات المعاصرة ويعكس مجريات الأمور على خير وجه.
          رواية ملك الهند التي ستقرؤنها بمتعة رواية بوليسية تدور حول جريمة قتل وتبحث عن قاتل. لا نستطيع الدخول في تفاصيلها لأنكم لم تطالعونها بعد. سأكتفي بالكلام الموجز على مسألتين.
الأولى موقع الرواية البوليسية بين سائر أنواع الرواية.
الثانية موقع ملك الهند من الحياة اللبنانية.
          يعود إعجاب الأديب الكبير خورخي لويس بورغس بالسرد البوليسي إلى النظام الذي يحويه. وهو يضيف بشيء من السخرية أن الكثير من اهل الفن ينسون أنه يجب أن يكون لعمل ما بدايةٌ ووسطٌ ونهاية وأن الرواية البوليسية ذكرّت عصرنا بجمالية وجود نظام وضرورته في الاعمال الأدبية. ورواية جبور الأخيرة مترابطة متناسقة محبوكة إلى أبعد الحدود. يطغى فيها من البداية إلى النهاية اللون الأزرق فهو طاغٍ على كل لون آخر إلا في لوحة "الكمنجاتي الأزرق" حيث لا يحتل إلا بقعة صغيرة. وإذا تشبّهَ الجدّ جبرائيل بكلارك غايبل وجد الحفيد في معشوقته الإيرلندية الأميركية  الممثلة فيفيان لاي و"ذهبا مع الريح". وإذا سكن زكريا عند ماتيلد في فندق سان بول دي فانس، ففيلومينا عاشت مع عمّ ماتيلد في نيويورك.
          لكن التشابك الصارم للعناصر،والذي تجلّى في مجمل السردية، ما لبث أن تفجّر في الخاتمة وفي كل الاتجاهات وكأننا في مشهد سريالي لا واقعي :"هذه الرصاصة لا تتطابق مع هذه الخرطوشة الفارغة...والاثنتان لا تتطابقان مع المسدس فالعناصر الثلاثة من مصادر مختلفة، وفي كل حال إن هذا الغلوك 17 لم يُستخدم في اطلاق عيار ناري واحد..." وكأنه مكتوب أن تكون أول رواية بوليسية عربية الآخيرة من النوع.أما تأكيد إحدى الشخصيات أن مرتكبي الجرائم معروفون في الغالبية ولا حاجة لتحقيق، فهو لا يستوفي لبّ المسألة.
          إلى صياغة حكايات ذاخرة بالتفاصيل المفاجئة والملاحظات المنعشة الشادّة للانتباه والمحفّزة لمتابعةالقراءة، يُعيرُ المؤلف أهمية كبرى لأساليب السرد فهو في كتابة الرواية يكتب في ثنايا الرواية رواية الرواية أو ما أطلقت عليه السيمياء المعاصرة اسم  نظرية الرواية. وكان الأمر ساطعاً في نص ملك الهند البوليسي الذي فكك العناصر بعدما ركّبها واحدا واحدا.

          تبقى المسألة الثانية وهي موقع الرواية من الحياة اللبنانية.
          يقول أندريه مالرو في مقدمة إحدى روايات فولكنر أن هذا الأخير أدخل المأساة الإغريقية إلى الرواية البوليسية. يمنعنا أسلوب جبور الدويهي الساخر والمتعاطف، الهازئ والحنون، عن التفوّه بعبارة مشابهة. لكن هذا المنع الأولي ما يلبث أن يتلاشى أمام أبعاد المأساة اللبنانية المتجلية بقوة في ملك الهند:
-          بُعد الأجداد المتجسّد في التاريخ والحاضر في الأجيال جيلاً بعد جيل (ونحن في هذه الرواية القصيرة أمام ما يزيد عن السبعة أجيال من جدّ فيلومينا ووالدتها إلى أنفار الميليشيات والفاليه باركينغ...) وهو بُعدٌ راسخٌ مستمر في العيش المشترك وأجهزة الدولة العاجزة والقوانين العثمانية والفرنسية  والتفرقة والثأر لا بل الممتد صعوداً إلى الخرافات والآلهة ولو ذُكرت الأصول هذه ى باسلوب ساخر متهكم.
-          بُعد الأبناء والأحفاد المرتدّ على آبائه عاطفةً ومسؤوليةً  موصلاً إياهم إلى اليأس والانتحار.
-          وإلى البعدين العاموديين يُضاف بعدٌ أفقي هو بُعد الهجرة و التوّزع في المعمورة من موسكو إلى سياتل مروراً بباريس وياونده. وكثيرا ما يسود الأوساط هذه غسيلُ الأموال والاتجارُ بالممنوعات والعنف والجريمة الإفرادية والمنظمة. ولا تُنجِ العودة إلى الموطن الصغير من نتائجها.
          ما تدور حوله الصراعات، مثله مثل العُقاب المالطي[1]،  أمورٌ وهمية لا مجال للتأكد منها: ذهب فيلومينا المدفون تحت أساسات البيت؛ كَرمُ المحمودية الملعون؛ لوحة شاغال المهداة لزكريا... وما هو ثابت وأكيد هو مخدرات الإيرلندية ورصاصات المجنون القاتل وما جناه بيع تراب أرض المسيح من مال للجدّة المؤسسة...
          ولِنُنهِ أخيراً ببيت شعر يوجز الأمور كلها:
الدهرُ ذو دولٍ والموتُ ذو عللٍ   والمرءُ ذو أملٍ والناسُ أشباهُ
وشكراً
زحلة في 3 إيار 2019           
 
              




[1]  رواية داشييل هاميت. 

No comments: